أسامة داود يكتب: ماهر أباظة متحدثا عن عبدالناصر (٢)

الجلوس الى العظماء الذين يملكون الحكمة والحنكة يتطلب منا الصمت لانه هنا يكون بالفعل من ذهب.

وكان لى شرف الجلوس الى العديد منهم فى رحلة عمل صحفى ميدانى إمتدت بى منذ منتصف التسعينيات وحتى الان. وماهر اباظة أحد هؤلاء، كان يلتقى بنا كصحفيين ربما أسبوعيًّا، و ينتقل النقاش معه من الإجابة عن أسئلتنا إلى التطرق إلى أمور أخرى. وقال فى إحدى اللقاءات مبررًا الزيادة الكبيرة فى أجور العاملين بالكهرباء: ليس من المنطقى أن يكون الفنى أو المهندس مؤتمنًا على العناية بمعدات ومهمات بعشرات الملايين من الجنيهات، بينما راتبه لا يكفى لتغطية احتياجاته وأسرته بشكل كريم.

حوارات سامي شرف

وأذكر فى هذا اللقاء موقفًا عندما التقينا، وكان عدد من الزملاء الصحفيين وأنا منهم، فقال موجها كلامه لى: أبلِغْ تحياتى للأستاذ عبد الله إمام على كتابه الرائع "حوارات مع سامى شرف". ثم تَنقَّلَ بنظرة بيننا، وقال متسائلاً: هل قرأتم يا أولاد هذا الكتاب؟ رد الزميل عادل صبرى، وكان يتولى تغطية أخبار قطاع الكهرباء فى صحيفة الوفد -فك الله أسره - قائلاً: لا أقرأ لعبد الله إمام؛ لأنه دائمًا ينحاز للرئيس عبد الناصر. وقتها تغيَّرَ وجه ماهر أباظة، فانتقل من وداعة الحمل إلى شراسة النمر، ورمق عادل صبرى بنظرة كادت أن تخترقه، وقال بصوت مرتفع، أحدث خضة فى قلوب الحضور، ولم نتعوده فى الماضى بهذا الشكل من قبل على ماهر أباظة، وقال: ومن لا ينحاز إلى عبد الناصر؟! أتعرفون من هو عبد الناصر؟ وواصل كلامه دون أن ينتظر ردًّا من أحد: أنتم لا تعرفونه. رد معظمنا قائلاً: ومن لا يحب عبد الناصر؟! ومن يستطيع إنكار فضل هذا الرجل؟! قال: لا.. أنتم لا تعرفونه.. عندما قرأت كتاب عبد الله إمام، توافق ما كنت أعرفه مع ما جاء بالكتاب، كانت صراحة سامى شرف فى سرد الحقائق تؤكد أمانته، و لفت نظرى ما قاله سامى شرف: لقد عملت مع عبد الناصر 18 عامًا، لم أستطع أن أنظر فى عينيه. وأقول إن هذا حدث لى بالفعل عام 1952، وكنت مهندسًا حديث التخرج، فإذا بأعضاء مجلس قيادة الثورة برئاسة محمد نجيب يجوبون محافظات مصر؛ تحية للشعب، وجاءوا لمحافظة الشرقية فى ضيافة زميلهم عمى وجيه أباظة. وفى المساء كنت أقوم بسؤالهم عما يريدونه من مشروب. فالتفت إلىَّ عبد الناصر، والذى لم يكن يتكلم نهائيًّا، وكان يجلس منفردًا هو واللواء محمد نجيب يقرأ كل منهما فى كتاب.. بينما باقى الضباط، وكانوا من الشباب، يلعبون الشطرنج والطاولة وبعضهم يتسامر. فنظرت إلى عبد الناصر - ولم أكن أعرف عنه شيئًا – متسائلًا: تأمر حضرتك بإيه تشربه؟ فشعرت عندما نظرت فى عينيه بما يشبه الماس الكهربائى قد سرى فى جسدى.. وتسلل داخلى نوع من الرعشة، التى كادت تخلع روحى من بين ضلوعى.. فقال وعلى وجهه ابتسامة هادئة: شكرًا.. بس يا ريت تحضر مصلية لغرفتى لأصلى العشاء. يقول ماهر أباظة: كان لدينا فى دار الضيافة غرف مستقلة، كل منها بحمام، فاصطحبته إلى غرفته، ووضعت له المصلية. وبعد الصلاة خلد إلى النوم، وفى نفس التوقيت قام نجيب إلى غرفته؛ ليصلى العشاء، وينام هو الآخر، بينما ظل الباقون لوقت متأخر من الليل فى لعب وسمر.

بيت عبد الناصر الذى أبكانى

قال ماهر أباظة: دخلت بيت جمال عبد الناصر ثلاث مرات فى عام 1980، بعدما عُيِّنْتُ وزيرًا للكهرباء فى عهد الرئيس السادات.. كنت أذهب بتكليف من رئاسة الجمهورية إلى بيته مرافقا لعدد من زعماء العالم عندما يزورون مصر، كانوا يطلبون لقاء أسرة عبد الناصر، وما أؤكد عليه وأشهد أمام الله أن أثاث بيت عبد الناصر لا يزيد على أثاث مدير إدارة فى وزارة الكهرباء، ولم أجد من مظاهر الفخامة سوى قطعة رخام كبيرة تحمل براويز تسكنها صور زعماء العالم، الذين كانت تربطهم بالرئيس صداقة، وكان يحترمهم عبد الناصر. ويكمل أباظة متأثرًا: ثم نجد فيما بعد من يتحدث عن بزخ عاشه عبد الناصر، وهو الامر الذى أبكانى. ويضيف المهندس ماهر أباظة، والذى تحوَّلَ بكلمات صديقى وأخى وزميلى عادل صبرى - فك الله سجنه وعوضه عن تلك السنوات خيرًا - إلى رافد تتدفق فيه تجليات من كلمات عن رجل كان بالفعل مفعمًا بحب الوطن ورمزًا للعزة والكرامة وطهارة اليد والعزوف عن كل زخارف الدنيا، من منبته حتى موته، فكان حقًّا على العالم أجمع أن يحترمه، وأن يكون رمزًا لكل من يريد التحرر. قال ماهر أباظة: لقد حدثنى بعض العاملين بالقصر الرئاسى أنه يوجد دفتر كان يسجل فيه قيمة كل ما يقدمونه لأبنائه الأطفال عندما يحضرون إلى القصر، من مشروبات أو غيرها؛ لتُخصَم من راتبه. ليختتم ماهر أباظة كلماته عن عبد الناصر؛ ردًّا على ما حدث لمصر فى عام 1967 من هزيمة، فقال الرجل: أصدقكم القول كانت مصر فى 1967 دولة صناعية زراعية، أسست كتلة عدم الانحياز، تطور فى مصر كل شىء، لدينا صناعة السيارات والسلاح والأجهزة المنزلية، ولدينا علماء فى الطاقة النووية تربَّوْا فى مفاعل إنشاص الذى أنشأه عبد الناصر. كانت تملك اقتصادًا قويًّا ومعدل نمو يزيد على 7% كأعلى معدلات نمو فى العالم باعتراف البنك الدولى. كانت تقود حركات التحرر فى العالم، وتسببت فى تفكيك الإمبراطورية البريطانية، وتسببت فى اهتزاز صورة الغرب بشكل كبير، ولكنى لا أنكر وجود بعض الأخطاء التى تم استغلالها ليحدث ما حدث. قال ماهر أباظة: كانت مصر تنطلق بسرعة الصاروخ، وهو ما لم يكن يمكن أن يسمح به الغرب؛ وبالتالى كانت المؤامرة على مصر. كان هذا ما دار فى جلسة ودية حضرها عدد كبير من الزملاء الصحفيين، ومنهم كثيرون لا يزالون بيننا، متعهم الله بالصحة.