 (1).jpg)
أسامة داود يكتب: الرمال السوداء بين ماهر أباظة وأبوالليل راشد!!

كان العام 1998 وصلتني معلومات من داخل وزارة الكهرباء، وتحديدًا من قيادات الطاقة النووية، يكشفون فيها عن أمر شركة حضرت إلى مصر للاستثمار الزراعي والصناعي بالمناطق الشاطئية للبحر المتوسط بمنطقة مطوبس محافظة كفر الشيخ.
تتبعت أخبار الشركة، وعلمت أنها شركة إسرائيلية، تأسست فى أستراليا وكل من بها من اليهود يحملون الجنسية الأسترالية.. وأن الشركة تريد فى ظل هوجة بيع شركات القطاع العام والتنازل عنها وتخصيصها دون ضابط أو رابط، بزعم تشجيع الاستثمار وجذب رؤس الأموال- وهو شعار تلك المرحلة- أن تجد لها موطئ قدم، ولم يكن هناك أفضل من الاستثمار كستار. تسللت الشركة، وتقدمت للحصول على مساحات محددة الموقع والمكان، بينما كان الهدف غير معلوم للحكومة. يقظة الأمن القومي
بدأت الشركة تحصل على الموافقات، ولكنها اصطدمت بالأمن القومى المصرى، الذى لم يكن من الصعب عليه الوصول إلى أصل وفصل الشركة؛ وبالتالى اكتشف أمرها، وتم طردها. وأكد المحافظ لى صحة تلك المعلومات، مشددًا على أن الأمن القومى يقظ وصعب استغفاله. بعدها بدأت ظاهرة غريبة، وهى استحواذ أحد الأفراد، والذى انتقل فجأة من العمل فى مجالات دُنيا إلى امتلاك بضع مئات من الأفدنة، وقام بعمليات تجريف من شواطئ البحر؛ لرفع تلك المساحة 2 متر عن سطح الأرض، وقام بزراعتها. وتضمنت المعلومات أنه من المتوقع أن تتحول تلك المزارع بجبال الرمال التى تراكمت أسفل منها إلى منطقة استخلاص للثروات المكتنزة والمختلطة بكل جغرافيا المنطقة وتضاريسها على كل مساحة الأرض وبكل أعماقها، خاصة اليورانيوم، والتى تشير الدراسات إلى أنها منطقة غنية بهذا العنصر الاستراتيجى والحيوى. كان هناك فى منطقة مطوبس موقع لهيئة المواد النووية، وكان عبارة عن موقع متواضع لا يقوم بأى نشاط مذكور. مع متابعتى اكتشفت عمليات تجريف تتم ليل نهار؛ لنقل الرمال إلى المزرعة التى تتجاوز مساحتها 200 فدان، وحصلت على عدة محاضر تحررت بمعرفة الشرطة. التقيت بالمهندس ماهر أباظة وزير الكهرباء بعد توافر المعلومات؛ لأسأل عن دور هيئة المواد النووية التابعة له، وكيف يتم الصمت أمام عمليات التجريف.
وتساءلت عن أمر الشركة الأسترالية، وأكد ما لدىَّ من معلومات، بل زاد عليها، وكشف لى أن تأجيل المشروع النووى أدى إلى تأجيل تفعيل مشروعات الاستفادة من الرمال السوداء، خاصة وأن بها نسبة عالية من اليورانيوم الذى يستخدم كوقود فى تشغيل المفاعلات السلمية التى تعمل فى توليد الكهرباء.
أباظة يستدعى ناشد
بعد اطلاعه على وقائع التجريف والمحاضر، تغير وجه الرجل، واتصل بالدكتور سمير ناشد رئيس هيئة المواد النووية للحضور، وحدد موعدًا فى غد ذلك اليوم للمواجهة بما أحمله من معلومات.
[caption id="attachment_9970" align="alignnone" width="100"]
كان هدفى الأول تجميع أكبر قدر من المعلومات للانفراد بها صحفيًّا وتبصير الرأى العام بما يحدث، وهى رسالتى الاولى. فى اليوم التالى كان الدكتور سمير ناشد منتظرًا فى القاعة الملحقة بمكتب المهندس ماهر أباظة، ويفصلها عن المكتب صالون صغير به باب للمكتب والباب المقابل للقاعة والثالث لممر الخروج. التقيت الرجل، ودخل المهندس ماهر أباظة بعدما كانت قد أبلغته مديرة مكتبه السيدة عناية بحضورى ومن قبلى الدكتور سمير ناشد. قال المهندس ماهر أباظة: إيه حكاية تجريف الرمال السوداء فى منطقة مطوبس؟ تحدث الرجل، وأكد ما قلته، وقال: كان من المفترض أن تكون كل الأراضى التى بها رمال سوداء تابعة لهيئة المواد النووية بموجب القرار الجمهورى رقم 196 لسنة 1977، ولكن للأسف انتقل معظم تلك الأراضى إلى قبضة المحافظة، وإن كان وجودها فى يد المحافظة لا ينفى تبعية ما بها من رمال سوداء وكنوز وثروات لهيئة المواد النووية، وقد أكد وجود عمليات تجريف رصدتها الهيئة من خلال موقعها بالمنطقة.
مفاجأة مكتب المحافظ
طلب الرجل عبر التليفون من مكتبه الاتصال بمحافظ كفر الشيخ المستشار محمود أبو الليل راشد؛ ليتحدث معه لدقائق فى أمور أخرى، ثم قال: معى الأخ أسامة داود، وهو صحفى ولديه معلومات أكد بعضها الدكتور سمير ناشد رئيس هيئة المواد النووية، وأرى ضرورة الالتقاء به لتوضيح الأمور. قال الرجل: أنا موجود من الغد بمكتبى. ولكن تحدد الموعد فى يوم الخميس اليوم الاخير فى شهر سبتمبر 1999فى تمام الثانية ظهرًا كنت بمكتب المحافظ.
المحافظ يتهم رئيس المدينة
وفى الصالون الملحق بالمكتب فوجئت برئيس مدينة مطوبس المهندس عبد المنعم صالح ومعه الفنان ماهر داود رسام الكريكاتير الذى خلف صلاح جاهين بجريدة الأهرام. كان ماهر داود صديقًا شخصيًّا لـ أبو الليل راشد وأيضًا للمهندس عبد المنعم صالح.
[caption id="attachment_10307" align="alignnone" width="213"]
ارتبك صالح عندما رآنى، وتدفقت الكلمات من لسانه؛ وعدَّد صداقاته مع الأقارب. قلت: لم أقصدك فى شىء، ولكن هذا أمر يخص الرمال السوداء وهيئة المواد النووية والكهرباء. دخلنا مكتب المحافظ، وكرر على مسامعنا ما دار بينه وبين الوزير ماهر أباظة، أراد عبد المنعم صالح أن يتكلم مدافعًا عن نفسه فنهره المحافظ وقال وهو يضغط على مخارج الحروف: أنت متهم، وطلب الرجل بعد سماع الحديث أن تشكل لجنة برئاسة السكرتير العام للمحافظة عاطف المليجى وعضوية عدد من قيادات المحافظة، على أن أكون عضوًا باللجنة؛ لبحث كافة الأمور، وأن تقدم اللجنة تقريرًا شاملا مساء نفس اليوم، وكان هدف أبو الليل راشد من مشاركتى هو رغبة الرجل فى أن يتم الأمر بأعلى درجات الشفافية المطلقة. وانتقلنا والسكرتير العام من مكتب المحافظ إلى مكتبه. وبعد دقائق كانت اللجنة تتحول إلى رئاسة عبد المنعم صالح، الذى كان أراد أن يتحدث أثناء لقاء المحافظ، فنهره أبو الليل راشد، وقال له: أنت متهم، وعليك أن تصمت، حتى تصدر اللجنة تقريرها. شعرت بصدمة؛ فخلاف ما قرر المحافظ يريد السكرتير العام أن يتحول الأمر إلى نوع من الترضية لى، ولأصبح شريكًا فى أمر خطير؛ وبالتالى يكون التستر على تلك المخالفات ليس بمعرفتى فقط ولكن بمشاركتى أيضًا؛ كانت كل تلك الوقائع قد كشفت لى أن كل الامور بالمحافظة تتم عبر السكرتير العام وأنه هو المحرك الفعلى لكل القرارات، وأنه على علم بكل ما يجرى من مخالفات قد ترتقى فى مثل تلك الأمور إلى جريمة تتعلق بثروات تخص الأمن القومى للدولة. قلت: كيف أكون عضوًا فى لجنة يرأسها رئيس المدينة الذى وصفه المحافظ منذ دقائق بالمتهم وبإعتباره هو المتستر على جرائم تجريف الرمال السوداء؟! أطلقت الكلمات وكأنى أردت بها اسدال الستار على مسرحية هزلية. انتزعت نفسى من المقعد، وانصرفت رغم محاولات استهدفت استرضائى استمالتى. ولا أخفى مدى سعادتى لتلاعب السكرتير العام بقرار المحافظ وقيامه باختيار صالح رئيسًا للجنة نيابة عنه. ورغم أن القرار كان مثيرًا للسخرية مليئًا بالمرارة.. لكنه أسعدنى لأننى بهذا الأمر تسلمت سلاحًا جديدًا أستطيع من خلاله فتح حملة صحفية سوف تستمر حلقات؛ لأكشف بها ما يجرى، وأعرف أن ما يُنشَر بواسطتى عبر معلومات ومستندات محدودة سوف يتحول إلى خيط تلقطه الأجهزة الأمنية والرقابية؛ لتصل به إلى كل التفاصيل والمعلومات التى نعجز نحن عن الوصول إليها وبأعلى درجات التوثيق. وفى اليوم التالى وصلتنى المعلومات بأن التقرير بالفعل تم إعداده داخل المكتب ودون مطالعة الوضع على الطبيعة. ونفى التقرير الغريب المريب وجود أى أعمال تجريف للرمال السوداء، متجاهلاً عدة محاضر كنت قدمتها، ومنها محاضر فى إبريل من عام 1998 موقعة من الزراعة والشرطة والإدارة المحلية. انصرفت لأبدأ كتابة عدة حلقات متصلة، وعلى مدار ساعات سردت كل الوقائع وكنت صباح مساء الجمعة داخل الجريدة أحمل الملف. وبعد سنوات علمت أن سكرتير عام المحافظة كان معزولًا.
إمام يرفض النشر
قدمت التحقيق الأول ليقرأ رئيس التحرير العنوان، ثم يرفض الموضوع. وبرر ذلك بأن الهجوم على المحافظ يضعنى فى خانة الاتهام بشخصنة القضية. غضبت لموقف رئيس التحرير، لكنى لم أستطع التغلب على قراره الذى من الصعب عليَّ إقناعه بتغييره. كان صديقى العزيز أكرم القصاص يتولى رئاسة قسم التحقيقات، وكان متحمسًا للملف، فقال: تعالَ نفكر شوية. وبخبرة القصاص وبقراءته لما فى رأس رئيس التحرير، صمت قليلاً، ثم قال وهو يشير إلى العنوان الرئيسى للموضوع: هذا العنوان هو سبب الرفض.. أنه يتضمن هجومًا على المحافظ. أمسك القصاص بالقلم، وخط بيده عنوانًا آخر، وقال وبخفة ظله المعتادة: إيه رأيك؟ كده الموضوع يمشى، وسوف يكون رئيس التحرير أكثر حماسًا له منك أنت شخصيًّا.
وافق رئيس التحرير على النشر؛ لتبدأ سلسلة تحقيقات كانت تعبر عن واقع مؤلم، وكانت تلك الحملة لها من ردود الفعل ما أوقف عملية التجريف، ووضع المنطقة تحت عيون الأجهزة الأمنية، حتى أصبحت اليوم مكان تخطيط لعدد من المشروعات الوطنية التى يتم من خلالها الاستغلال الأمثل للرمال السوداء.
وكانت تلك الحملة جزءًا من كتابى "حيتان الأراضى"، والذى صدر بعد ثورة 2011.