
الدكتور ماهر عزيز يكتب.. المزيج الأمثل للتوليد الكهربى فى مصر (١)

يشكل الوقود الأحفورى، على الأخص النفط والغاز، في وقتنا الراهن الطاقة الأولية الغالبة في الكثير من الدول، على الأخص الدول العربية بما فيها مصر، بما يقدر بحوالى 98.6% من استخدامات الطاقة التجارية فى دول العالم العربى كله.
الهيمنة الراهنة للنفط والغاز
وتهيمن أنواع الوقود الأحفورى من النفط والغاز كذلك على توليد القوى الكهربية، منتجة ما يقارب 93% من كهرباء العالم العربى اليوم بما فيها مصر، ويقدر لها أن تفى بنسبة لا تقل عن 80% عام 2035 بمقتضى سيناريو "الحالة المعتادة".
فالوُقُد الأحفورية هى المصدر الأكثر تطوراً واقتصاداً لتوليد القوى الكهربية في العالم اليوم، بَيْدَ أنها كذلك المسبب الأكبر للتلوث المحلى، وانبعاثات ثانى أكسيد الكربون (CO2) على النطاق العالمى.
هذا الاعتماد الكبير للمنطقة العربية ومصر على مصادر النفط والغاز يشير إلى مزيج طاقة غير آمن وغير مستقر، بما يهدد بانقطاع الإمدادات لدى حدوث أية اختناقات فى السوق الدولية للنفط والغاز، أو وقوع أية أحداث كبرى تؤثر بالسلب على الأوضاع السياسية والاقتصادية للمنطقة، بغض النظر عما تستأثر به منطقة الخليج العربى وشرق المتوسط ومصر من نسبة عالية من المخزون العالمى للنفط والغاز.
وقد تعرضت مصر خلال الفترة: 2011 - 2015 إلى أزمة طاحنة فى إمدادات الكهرباء نظراً لفقر المزيج الكلى للطاقة لديها، واعتماده بالدرجة الأولى على النفط والغاز بنسبة لا تقل عن 92% عام 2018 فى قطاع الكهرباء، وتصل لحوالى 96% على مستوى الإمداد الكلى بالطاقة من مصادرها الأولية.
تتحدد المشكلة على هذا النحو فى قطاع الكهرباء فى مصر فى اعتماده شبه الكلى على نوعية واحدة من مصادر الطاقة هى مصادر النفط والغاز، وعلى نحو رئيسى الغاز الطبيعى، فى الوقت الذى يتنوع فيه مزيج الطاقة الكهربية على المستوى العالمى.
وفى منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، بل وفى العديد من دول العالم النامى، على نحو يؤمن الإمداد بالطاقة الكهربية، وينأى به عن الانكسارات أو الانهيارات الجسيمة التى تعرض الاقتصادى القومى وحياة الناس لمخاطر محققة.
يُضَاف إلى ذلك أن التقديرات العالمية لمخزونات النفط والغاز تشير فى مجملها إلى قرب نضوب النفط (خلال حوالى 30 عاماً) والغاز (خلال حوالى 45 عاماً) على المستوى الإقليمى والعالمى.. بما يدفع إلى حتمية تنويع هذا المزيج للوصول إلى أمن الطاقة وأمن الإمدادات.
مبدأ الاحتفاظ بجميع خيارات الطاقة مفتوحة
وإذا فحصنا الوضع الدولى بأكثر تفصيلاً نجد أنه فى تجمع ضخم لعلماء الطاقة من مائة دولة على الأقل، تحت مظلة مجلس الطاقة العالمى ظل المبدأ الثابت الذى أصروا عليه دواماً لتخطيط الطاقة.
وأجمع عليه العلماء وقادة الأعمال والطاقة، أنه يجب "الاحتفاظ بجميع خيارات الطاقة مفتوحة" Keep All Energy Options Open.
ذلك أن نظم الطاقة تتميز بقصور ذاتى مكين، كما أن قدرتها على التواؤم مع التكنولوجيات الجديدة وحقائق الأسعار بطيئة بسبب معدل دوران رأس المال، أو لأنها مكلفة للغاية.
على أنه من وقتنا الحاضر وحتى عام 2035 سوف لا يكون هنالك عجز فى أنواع الوقود الأحفورى، لأن الغاز والنفط يقدر لهما أن يظلا حوالى 30-45 سنة أخرى على مستوى العالم ككل، بينما هما ينضبان على نحو أسرع فى مناطق معينة من العالم خاصة الشرق الأوسط ومصر.
وفى ظل هذا الوضع يُتَاح عالمياً الآن استغلال المصادر غير التقليدية للنفط بتكلفة منخفضة نسبياً. يضاف إلى ذلك أن الفحم أيضاً موجود بوفرة فى السوق الدولية، والتكنولوجيات النظيفة للفحم متاحة، والقوى النووية ستستمر كخيار قائم.
ولذا فالاعتماد على مؤشرات السوق لتحديد مزيج الطاقة لا يصطنع مخاطر خاصة فى هذا الإطار الزمنى، بيد أن التركيز على الدور طويل المدى للطاقة المتجددة، وتطوير النظم الأنظف لوقود الفحم، وتحسين التكنولوجيا النووية، يمدنا بخيارات فطينة متدبرة تستوجب جهوداً منسقة.
واستبقاء جميع خيارات الطاقة مفتوحة هو مفهوم ديناميكى، يتيح فسحة رحبة لتطوير وتنمية الأشكال الجديدة من الطاقة، التى تعادل (تعوض) الطبيعة المتناهية لبعض أنماط الإمدادات الحاضرة للطاقة، أو تتناول التكنولوجيات بطرق مستجدة تضائل التأثيرات الجانبية الضارة للإنتاج، أو للاستخدام الراهن للطاقة؛
فالطاقة المتجددة الجديدة، واستقدام الفحم النظيف، وتنفيذ البرنامج الوطنى للقوى النووية، هى التطورات التى ينبغى السعى نحوها وتعقبها.
ورغم ذلك لا يرى العديدون أن الطاقة المتجددة ستتمكن من المشاركة بالمستوى الذى يضائل الرغبة فى الاستخدام الأكثر كفاءة والمستدام للوقود الأحفورى، أو فى دور مهم للقوى النووية نحو إحراز غايات نوالية الطاقة وإتاحيتها فيما بين وقتنا الراهن وعام 2035.
التفاوت العالمى فى مزيج الكهرباء
يختلف مزيج التوليد الكهربى على نحو كبير من دولة لأخرى بناءً على السياسات الوطنية والإنتاج المحلى للوقود.
وفى الولايات المتحدة الأمريكية تسبب الإنتاج الوفير الواسع لغاز الطفلة Shale Gas على مدى السنوات الست الماضية فى خفض سعر الغاز على نحو كبير، وزادت مشاركته فى مزيج الطاقة الأمريكية إلى 25% مما ترتب عليه ارتفاع صادرات الفحم الأمريكى، وانخفاض أسعاره فى السوق العالمية، مما أدى إلى استخدام أكبر للفحم فى دول أخرى، على الأخص فى أوربا.
كما استمرت الصين والهند فى الاعتماد الأساسى على الفحم باعاتباره الوقود الأرخص إطلاقاً، والأسهل مطلقاً فى الوصول إليه، لكن الصين تتعقب فى الوقت ذاته نمواً واسعاً فى القوى النووية، وقوى الرياح، بينما تمتد فى توسعات الطاقة الشمسية لديها.
والحق أن مزيج التوليد الكهربى، أو ما يسمى بتصنيف الوُقُد المختلفة المستخدمة فى توليد الكهرباء، لا يزال يؤدى فيه الفحم دوراً رئيسياً على المستوى العالمى، وحتى ولو هنالك توقعات بأن هذا الوضع قد يتغير على نحو ملحوظ خلال السنوات العشرين القادمة لصالح مصادر أخرى، خاصة المتجددات والغاز الطبيعى، إلا أنه سرعان ما يعود إلى سيادة الفحم فى التوليد الكهربى العالمى بما لا يقل عن 40% بحلول عام 2100، نظراً لنضوب الغاز والنفط تماماً آنذاك، والقصور الذاتى الطبيعى للمتجددات الكبرى بشأن تقطعها وترجحها.
فسعره الرخيص وسهولته فى الإنتاج يُبْقِيَا للفحم فى وقتنا الراهن مكانته كمصدر رئيسى للوقود فى توليد القوى الكهربية باتساع العالم، وقد شارك عام 2013 بنسبة 41% فى المزيج الكلى للكهرباء العالمية، مقابل 22% للغاز الطبيعى، بينما لم تزد المتجددات الجديدة (الشمس والرياح) على 2%، فيما بلغت الكهرباء الهيدرولية 16%، والنووية 11%.
ووفقاً لدراسات توقعات التوسع فى التوليد الكهربى المستقبلى، التى أجرتها إدارة معلومات الطاقة بالولايات المتحدة الأمريكية.
فإن هذا التوازن سيتغير عام 2040 بمزيج عالمى للطاقة يتشكل من 9% من الطاقات الخضراء - بدون الطاقة الهيدرولية - اعتماداً على النمو السريع لطاقة الرياح، وانخفاض للفحم إلى ما بين 36% و32%، بغض النظر عن النمو المستمر القوى فى عدد محطات الكهرباء بالفحم فى الهند والصين، بينما يحقق الغاز الطبيعى وثبة إلى حوالى 35% فى مزيج التوليد الكهربى بسبب اضطرار دول عديدة لحرقه فى إنتاج الكهرباء، أما النووية فتستقر على ما هى عليه أو تزيد قليلاً حتى هذا التاريخ، محققة زيادة فى الصين والهند وبعض الدول النامية، ومائلة فى الوقت ذاته إلى الانخفاض فى بعض الدول الأوربية وأمريكا.
وهنالك عوامل عدة تؤثر على هذه التقديرات، أولها: أن السياسات الأكثر قسوة لخفض ابتعاثات غازات الدفيئة (GHGs)، بما فيها ضريبة الكربون، قد تبطئ مرحلياً النمو المتسارع لمحطات الفحم الكهربية، التى لا تزال نسبياً هى التكنولوجيا الأكثر تكثيفاً للكربون بالقياس للوُقُد الأخرى، وثانيها: إذا تسارع نمو إنتاج غاز الطفلة shale gas حول العالم على نحو ما حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية فى السنوات القليلة الماضية فإن سعر الغاز سينحدر حتى بأسرع من التوقعات، رافعاً مشاركته فى مزيج التوليد الكهربى على نحو أوتوماتيكى، لكن التكنولوجيا المستخدمة لإنتاج غاز الطفلة يُرَجَّح أن تستقطب معارضة كبيرة حول العالم بسبب تأثيراتها البيئية المزعومة.
الحلقة القادمة الغاز والفحم في الكهرباء العالمية.. مأزق الغاز الطبيعي في مصردكتور مهندس/ ماهر عزيز استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ