
الدكتور ماهر عزيز يكتب: المزيج الأمثل للتوليد الكهربى فى مصر (2)

الغاز والفحم فى الكهرباء العالمية
تَشَكَّل مزيج التوليد الكهربى فى العالم كله على نحو مجمع من دول العالم عام 2018/2019 من 38% فحم، و23.2% غاز، و3% نفط، و10.2% نووى، و25.1% مصادر جديدة ومتجددة بما فيها الكهرباء الهيدرولية، و0.6% مصادر أخرى. وقد تنوعت المصادر الجديدة والمتجددة على نحو 15.8% من الكهرباء الهيدرولية، و2.2% شمسية، و4.8% من قوى الرياح، و0.3% من حرارة باطن الأرض، و2% من الوقود الأحيائى.
ويهمناأن نلحظ على نحو شديد الوضوح هنا أن مشاركة الغاز الطبيعى فى القوى الكهربية العالمية لا تزيد على 23.2%، بينما تصل مشاركة الفحم إلى 38%، ولا تزيد مشاركة الشمس على 2.2% والرياح على 4.8%.
على أننا لكى ندرك توليفة مزيج التوليد الكهربى فى العالم على نحو أكثر وضوحاً، نحتاج أن نتتبع هذا المزيج عينه فى عدد من دول العالم لعام 2018/2019:
• فى الصين بلغت مشاركة الغاز 3%، بينما وصلت مشاركة الفحم إلى 67%. • فى الهند بلغت مشاركة الغاز 5%، بينما وصلت مشاركة الفحم إلى 75%. • فى الدانمارك بلغت مشاركة الغاز 6%، بينما وصلت مشاركة الفحم إلى 21%. • فى ألمانيا بلغت مشاركة الغاز 13%، بينما وصلت مشاركة الفحم إلى 37%. • فى اليابان اضطروا لأجل التوازن البيئى إلى رفع نسبة الغاز المستورد مؤقتاً إلى قيمة قصوى بلغت 35% لتعويض تكهين بعض المحطات التى انتهى عمرها التشغيلى، فى ظل نسبة تكاد تكون ثابتة للفحم تبلغ 31%، وفى وجود برنامج قوى لزيادة مشاركة القوى النووية فى السنوات المقبلة. • فى شيلى بلغت مشاركة الغاز 16%، بينما وصلت مشاركة الفحم إلى 36%. • فى السويد بلغت مشاركة الغاز صفر%، بينما وصلت مشاركة النووى إلى 41%. • فى الولايات المتحدة الأمريكية تفجر غاز الطفلة (أو الغاز الصخرى) بغزارة، فارتفعت نسبة مشاركته إلى 34% ليحل محل الكثير من محطات الفحم التى انتهى عمرها التشغيلى، الذى انخفضت نسبة مشاركته مؤقتاً إلى 28% حتى تدخل الخدمة المحطات الجديدة بالفحم. • فى بريطانيا يتشابه الوضع مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ارتفعت نسبة مشاركة الغاز مؤقتاً لتغطى انخفاض الفحم من 30% عام 2012 إلى 5% عام 2018 بسبب كل المحطات المتقادمة التى خرجت من الخدمة لانتهاء عمرها التشغيلى فى انتظار المحطات الجديدة بالفحم عالية الكفاءة فائقة النظافة البيئية ومنخفضة ابتعاثات غازات الدفيئة فى الوقت ذاته.
هذه الأمثلة تشير إلى مزيج توليد كهربائى متوازن لا يجور على مصدر لصالح آخر..
لكن هنالك أمثلة أخرى من دول عديدة يفقد فيها مزيج الكهرباء لديها اتزانه لصالح نوع واحد وحيد من مصادر الطاقة، بما يضعها على كف الخطر بشكل غير آمن مطلقاً..
ومن هذه الدول أيرلندا التى تبلغ فيها مشاركة الغاز نسبة 52%، وإيطاليا التى يشارك فيها الغاز بنسبة 45%، وإيران التى يشارك فيها الغاز بنسبة 67%..
أما مصر فتتجاوز هذه الدول جميعها لتصل مشاركة الغاز الطبيعى فيها عام 2017/ 2018 إلى ما يقرب من 84.4%، بينما لم تزد الكهرباء الهيدرولية فى العام ذاته على 6.5%، كما لم تزد الطاقة المتجددة على 1.5%.
فى جميع توليفات مزيج الطاقة فى الدول السابقة، وفى دول كثيرة غيرها، تتجه الجهود إلى خفض مشاركة الغاز الطبيعى، إلا لظروف طارئة لا مناص منها، بينما تتزايد مشاركة الفحم أو النووى، فضلاً عن الجهود المتواصلة لزيادة مشاركة المتجددات.
وإذا عدنا لإجمالى المزيج العالمى، ولاحظنا تطوره، فسنجد أن مشاركة الغاز الطبيعى فى المزيج العالمى للتوليد الكهربى بلغت عام 2013 حوالى 22%، بينما الفحم 41%، والكهرباء النووية 11%، والهيدرولية 16%.
وفى عام 2019 – كما أسلفنا – كانت مشاركة الغاز الطبيعى 23.2%، بينما مشاركة الفحم 38%، والكهرباء النووية 10.2%، والهيدرولية 15.8%.
وتشير كل التوقعات إلى مزيج عالمى للتوليد الكهربى عام 2040 بمشاركة للغاز الطبيعى لا تزيد على 24%، ومشاركة للفحم تصل إلى 36%.
وفى عام 2100 لن يتبقى فى مزيج التوليد الكهربى من الغاز والنفط الناضبين سوى مشاركة لا تزيد على 7% و3% على الترتيب، بينما ترتفع مشاركة الفحم إلى 40%، والنووية إلى 23%، والقوى الهيدرولية 2%، مع بلوغ الشمس والرياح نسبة لن تتعدى 10%، والكتلة الأحيائية (البيوماس) 10%، ومصادر أخرى فى حدود 5%.
وهكذا سيسجل عام 2100 الأفول النهائى للنفط والغاز تقريباً فى مزيج التوليد الكهربى العالمى، مع الانتتقال للاعتماد الرئيسى على كل من الفحم والنووى.
ولقد شهد رئيس البنك الدولى فى إحدى كلماته بأنه لا توجد دولة مطلقاً قد تطورت حتى الآن بالقوى الكهربية المتقطعة.. مشيراً فى ذلك إلى محدودية المصادر المتجددة للطاقة، ومحدداتها الراهنة فى التطور الاقتصادى والاجتماعى للدول، مهما زادت نسبة مشاركتها.. بينما يؤكد رجال الطاقة والصناعة بمجلس الطاقة العالمى وسائر المنظمات الدولية أن الفحم يؤدى دوراً حيوياً فى توليد الكهرباء على اتساع العالم أجمع، وستظل مشاركته تتزايد فى المزيج العالمى للقوى الكهربية، مصاحباً لتزايد القوى النووية حتى نهاية القرن الحادى والعشرين وما بعده.
مأزق الغاز الطبيعى فى مصر
تشكل المساهمة الحالية للغاز الطبيعى فى مزيج التوليد الكهربى المصرى مأزقاً خطيراً.. ولكى ندرك هذا المأزق الخطير نشير إلى التقديرات التى أجراها اقتصادى الطاقة الكبير الراحل الدكتور/ حسين عبد اللـه فى مطلع الألفية الثالثة (يناير 2002)، التى تم تحديثها عام 2009، كتب الدكتور/ حسين عبد اللـه يقول: "مع افتراض وضع برامج صارمة لترشيد الطاقة، ورفع كفاءتها بما يؤدى إلى خفض المرونة على الطلب على الطاقة إلى 0.75، أى ما يعادل المتوسط العالمى.وبفرض أن مصر ستحقق نمواً اقتصادياً بمعدل 7% سنوياً فى المتوسط عام 2025، فإن معدل الاستهلاك المحلى من البترول والغاز يمكن أن يُسْتَبْقَى عند نحو 5% سنوياً فى المتوسط، وبذلك تبلغ احتياجات مصر المجمعة من البترول والغاز حتى عام 2025 نحو 1100 مليون طن مكافئ نفط (م.ن)، وإذا أضيفت حصة للتصدير سنوياً يصبح إجمالى الاحتياجات 1300 مليون طن م.ن، وإذا أضفنا كمية مماثلة لتغطية نصيب الشريك الأجنبى مقابل استرداده تكاليف الإنتاج يصل المستهدف إنتاجه حتى عام 2025 نحو 3300 مليون طن م.ن، وبمقارنة هذا الرقم بما كان معلناً وقتها من احتياطيات لم تتجاوز 2288 مليون طن م.ن. (كانت الاحتياطيات المعلنة 3.9 مليار برميل نفط ومتكثفات، و76 تريليون قدم مكعب غاز)"، ثم استكملت التقديرات المُحَدَّثة: "وحتى فى وجود احتياطى مرجح من الغاز يبلغ حوالى 100 تريليون قدم مكعب، يبلغ نصيب مصر منها حوالى 50 تريليون قدم مكعب ، يتضح أن كل الاحتياطى المؤكد والمرجح لايزيد على حوالى 3500 مليون طن م.ن بحلول عام 2025، أى لا يزيد على الطلب التراكمى عليه حتى ذلك العام، بما ينذر بكارثة إن لم تجد مصر مصدراً بديلاً للطاقة يحقق استمرارية واستدامة الإمداد".
كانت تلك تقديرات عام 2009 حيث كانت القدرات الكهربية المركبة التى قُدِّر أنها ستلتهم كل هذا الغاز الطبيعى لا تزيد على 21,435 ميجاوات حرارية من إجمالى قدرات مركبة 24,726 ميجاوات، بلغت فيها نسبة التشغيل بالغاز الطبيعى 80.5%.
واليوم.. ما أشبه الليلة بالبارحة.. مع بقاء نفس فروض التقديرات السابقة التى تكرر ذاتها تقريباً اليوم، فلكى نتوصل إلى تقدير حجم الإنتاج المطلوب من البترول والغاز، ومن ثم الاحتياطيات التى تسانده اليوم لتشغيل القدرات الكهربية الحالية حتى عام 2035.. علينا أن ندرك أن هذه القدرات الكهربية المركبة قد بلغت عام 2018 حوالى 51,000 ميجاوات حرارية من إجمالى قدرات مركبة حوالى 55,000 ميجاوات، بلغت فيها نسبة التشغيل بالغاز الطبيعى 85.5%.
فإذا كانت القدرة المركبة التى تلتهم الغاز الطبيعى قد ضوعفت اليوم إلى حوالى 2.4 مرة ما كانت عليه عام 2009، فإن المؤكد والمرجح من الاحتياطيات اليوم لا يزيد على الاحتياطيات ذاتها عام 2009 المقدرة بحوالى 3500 مليون طن م.ن، وحتى لو ضوعفت هذه الاحتياطيات اليوم إلى 7,000 مليون طن م.ن (وذلك افتراض صعب المنال)، فإن التضاعف الحادث فى القدرات المركبة الكهربية يلتهمها جميعها فى مدى أقصاه عام 2035، بما ينذر بكارثة حقيقية إن لم تجد مصر مصدراً بديلاً اليوم – وليس غداً – يحقق استمرارية واستدامة الإمداد بالطاقة الكهربية!!!
يبقى التساؤل المهم المثار فى مأزق الغاز الطبيعى، بشأن حرق كميات أكبر سنوياً لتوليد الكهرباء، حرجاً على المحك، خاصة مع الاحتياج إلى حوالى 3 مليون متر مكعب جديدة يومياً مع كل 700 ميجاوات مركبة بالغاز الطبيعى تضاف إلى الشبكة الكهربية.. فكيف والحال هكذا يمكن الاستمرار فى إمداد الوحدات الجديدة التى تدخل الخدمة بالغاز الطبيعى؟
ولن يؤثر كثيراً أبداً الإعلان عن أية كشوف مستقبلية من الغاز الطبيعى، بعد افتراض مضاعفته بالكامل فى التحليل السابق، وبقاء المأزق على ما هو عليه.. بل ربما أشد!!
لكن جانباً آخر فى غاية الحرج لا يزال يتعلق بالغاز الطبيعى ألا وهو المُعَبَّر عنه بالقيمة المضافة.. فاستخدام الغاز الطبيعى فى صناعة البتروكيماويات النهائية يحقق كسباً اقتصادياً مقداره 12 – 16 ضعفاً، واستخدامه فى الاستهلاك المنزلى والتجارى يحقق حوالى 6 أضعاف الكسب الاقتصادى، واستخدامه فى صناعة الأسمدة يحقق 4-6 أضعاف القيمة، بينما استخدامه فى توليد الكهرباء لا يتجاوز بالقيمة المضافة أكثر من 1.5 مرة!!
فهل إذا ملكت دولة ما تمتلكه مصر من الغاز الطبيعى، ويكون فى مقدورها أن تستثمره فى صناعة تدر عليها 12-16 ضعف القيمة الاقتصادية المباشرة، لا تفعل ذلك بل تحرقه لتوليد كهرباء فلا تعظم قيمته سوى إلى 1.5 مرة فقط، بينما فى مقدورها بمنتهى السهولة أن تستخدم مصادر أخرى للطاقة أكثر وفرة فى العالم كالفحم لتوليد الكهرباء بنفس التكلفة النهائية لوحدة الطاقة المولدة ؟؟؟
هل إذا ملكت الدولة الفرصة الحقيقية لخفض استخدام الغاز المتوافر لديها فى توليد الكهرباء رويداً رويداً باستخدام مصادر أخرى أكثر وفرة كالفحم، تظل هكذا على نهجها المُبَدِّد ولا تفعل ذلك ؟؟؟
إن مزيجاً جديداً للقوى الكهربية الآن صار حتمية جوهرية لا يمكن النكوص عنها، وتوليفة مختلفة تماماً لأنواع الوقود المستخدم فى التوليد الكهربى الآن يجب أن تسود.
إن التفكير بإضافة أية قدرات جديدة بالدورات المركبة الغازية يصبح فى ظل هذه الرؤية المستقبلية للغاز بمصر مخاطرة كبرى!!
فلا يجب أن تضاف ميجاوات واحدة بعد الآن بنظام الدورة المركبة بالغاز الطبيعى..
وليتوقف على الفور بناء أية محطات كهربية تستخدم الغاز الطبيعى كوقود، سواء كانت دورات مركبة أو محطات بخارية.
وليكن الاتجاه فورياً لاستخدام أنواع وقود أخرى أكثر لائقية، وأكثر وفرة، وأكثر أماناً، وهى المزايا التى تتوافر جميعها فى وقود الفحم الآن بمصاحبة تلازمية مع الوقود النووى، ليكونا معاً مزيجاً قوياً لمكافحة انبعاثات غازات الدفيئة.
الحلقة القادمة لا إقصاء لأى مصدر طاقة.. المزيج الأمثل للكهرباء المصريةدكتور مهندس/ ماهر عزيز استشارى الطاقة والبيئة وتغير المناخ