ناصر أبوطاحون يكتب: المعادلة الصعبة

عقب نكسة يونيو 1967 شكل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر حكومة برئاسته فى إطار إعادة بناء القوات المسلحة و الاستعداد للمعركة و فى أحد اجتماعات مجلس الوزراء التى كان يترأسها عبد الناصر و بعد ان استعرض الرئيس الموقف العسكرى، توجه بالحديث لوزير الإعلام السيد محمد فائق معبرا عن أمله فى ضرورة تغيير الإذاعة لسلوكها "الحزين" فى ذلك الوقت، كانت الإذاعة تعيش مثل غيرها من مؤسسات الدولة، حيث  يخيم عليها اجواء الهزيمة، وكانت الإذاعة بين حالتين.. إما إذاعة الأغانة الوطنية و تحميس الجماهير ، أو يخيم عليها نوع من الحزن و قال جمال عبد الناصر محذرا محمد فائق " الخطر سيكون فى انصراف الناس عن الإذاعة ،لأنهم لو لم يجدوا ما يريدونه على إذاعاتنا فسيبحثون عنها فى أماكن أخرى، و تنجح الإذاعات المعادية فى السيطرة عليهم " فرد وزير الإعلام على الرئيس قائلا " إننا نعانى بشدة فى هذا الملف يا سيادة الرئيس، فالأمر معقد و الأراء متعارضة بين ضرورة أن تتحرك الإذاعة نحو دورها الطبيعى ، و بين حالة الحزن و الغضب المسيطرة على الناس فرد عبد الناصر " ربنا معاكم " و الشاهد هنا أنه فى عز الأزمة و النكسة و الحرب كانت عين الدولة ممثلة فى رئيسها على الإذاعة، فلم يكن التلفزيون بنفس حجم التأثير الحالى و ساعات البث محدودة، بخلاف أن التقنيات الفنية لم تكن تسمح بقنوات تلفزيونية تهاجم من الخارج وبالتالى كان الحديث عن الإذاعة، و ضرورة أن تسعى الإذاعة بالأداء الطبيعى لإجتذاب المصريين حتى لا نتركهم نهباً لمن يلقى فى أدمغتهم ما يريد و ما يشاء، مستغلا الحالة التى كان عليها المصريون فى ذلك الوقت و عندما نقارن الوضع أنذاك بما يجرى حاليا فى ظل السماوات المفتوحة و انتشار الأقمار الصناعية يصبح الوضع شديد الصعوبة ، خاصة إذا كان مقترنا بحالات عداءات متغيرة و متنوعة فى المحيط الإقليمى و الدولى فبالمثل لو لم يجد المواطن المصرى ما يريد فى وسائل الإعلام الوطنية المسئولة سيكون متاحا لديه خيارات متعددة أخرى فى الخارج  ، و هذه الوسائل منها الصادق و أكثرهم كاذبين ، لكن المحتوى الإعلامى يقدم بوسائل جاذبة و قوالب محببة و وسائل جاذبة تجعل المواطن فى حالة من الارتباك و التشتت باختصار شديد  لن يمكن لوسائل إعلامنا المنافسة فى ظل الأداء المتردى لمعظم ، إن لم يكن كل ، من يطلون على الشاشات كل يوم ناهيك عن كون معظمهم يحظى بحالة من الكراهية من اغلبية المشاهدين، بما يجعل من اصطياد المصريين لقنوات الخارج أمراً  يسيراً و استمرار الوضع الإعلامى الراهن لا يبشر بخير فى ظل غياب تام للتنوع على الشاشات ، و استخدام وسائل و أساليب بالية  ، ناهيك عن السباب  و الألفاظ الخارجة و التجريح و الإهانات، كلها مما ينفر منه الناس، ويصرفهم إلى الخارج المعادى بالقطع المعادلة صعبة فى الإعلام ، خصوصا فى تقديم التوليفة الإعلامية التى تجتذب المشاهد و تشده حول قضاياه الحقيقية، و تجمع أمره حول دولته و فى قلب معركتها، أو تقديم ذلك النموذج البائس الذى يقوم على التأييد الغشيم و الوطنية الزائفة و المزايدات الرخيصة، و كلها من الأمور التى من الطبيعى أن يغيب عنها الصدق و يظهر الزيف على الشاشات و ربما فى حالة جمال عبد الناصر كان هناك وزير للإعلام يقوم بدور المايسترو الذى ينسق الأداء الإعلامى و يضبط صياغته معتمدا على كتيبة من المحترفين، مما اعد فى إنجاح التجربة أما فى خالتنا الأن فالإنفلات سيد الموقف، حيث لا وزير إعلام يضبط الأداء، و لا مؤسسة إعلامية تنسق الأداء، بل فوضى حقيقية تغيب عنها الرؤية و الفاعلية و ربما من نافلة القول أن المراهقة الثورية  التى سيطرت على الحالة المصرية عقب يناير و يونيو أفضت إلى إلغاء منصب وزير الإعلام ، و ناضل الجميع فى هذه المعركة و كأنها هى التى ستنصر الثورة ، فكانت النتيجة كما نرى و لا يجب أن يفهم أحد أن هذه دعوة منى لإعادة وزير الإعلام فلا مصلحة لى شخصية فى الأمر و لكنى أناقشه من زاوية نتيجته الحالية لأننا أصبحنا كالمنبت فلا ظهراً أبقى و لا طريقا قطع فلا وزير إعلام  أبقينا و لا  طريقاً إلى مؤسسة إعلامية مستقلة حقيقية قطعنا لكن يبقى أن بقاء الأمر كما هو الأن خطير جدا على المدى القريب و البعيد فالإعلام الحقيقى و الجاذب للمشاهد لا يقوم  بدون حريات حقيقية و رأى يقابله رأى أخر، و معلومات كاملة فعلينا أن نسارع لكى نستعيد ريادة إعلامية حقيقية كانت لنا و افتقدناها