أسامة داود يكتب: رحلة حزن فى معهد ناصر

رحلة فى معهد ناصر.. تلك المدينة الطبية التى كنا نتباهى بها لعقود طويلة، و التى أنجزت أكثر من 30 ألف جراحة قلب مفتوح وقسطرة وعشرات الجراحات من زرع النخاع والكلى والكبد وغيرها من جراحات دقيقة، من الممكن أن تعجز عنها المراكز الطبية العالمية.

معهد ناصر الذى رأيت فيه سفراء وقناصل دول ومسئولين على أعلى مستويات يتوافدون للعلاج أو متابعة مواطنى دولهم.

أحكى رحلة على مدار 3 ساعات لمريض جاء بالإسعاف وبعد توصيات من أكبر رأس فى المنظومة الصحية فى مصر ليجرى فحص رنين طيفى عبر جهاز الرنين المغناطيسى وهو الجهاز الأول من نوعه فى مصر حسب الكلام.

جهاز رنين فى معهد ناصر هو الأول من نوعه فى مصر ربما انضم إليه اثنان من مراكز الأشعة الخاصة فى مصر.

كان الموقف أشبه بالكوميديا السوداء التى بدأت بأعلى مسئول فى المنظومة وانتهت إلى عنصر فنى قال الحقيقة المرة وهى أن الجهاز عطلان.

أتعرفون ما هو العطب الذى أصاب أفضل جهاز رنين مغناطيسى فى مصر؟ وداخل أكبر مدينة طبية فى الشرق الأوسط؟ عليك أن تتخيل مدينة طبية تتوقف بها خدمة هى من أهم الخدمات التى يحتاج إليها العديد من الأمراض الحساسة للغاية ويساعد هذا الفحص الأطباء لاتخاذ قرارات تتعلق بمجموعة كبيرة من القرارات والإجراءات المرتبطة بتخصصات طبية متنوعة فى الأعصاب، والعضلات والعظام، والتطبيقات الطبية سريعة التطور مثل تصوير الأوعية الدموية.

كان المريض وهو صبى فى الرابعة عشرة من عمرة ويعالج بأحد مستشفيات أمانة المراكز الطبية المتخصصة قد تطلب الأمر إجراء رنين مغناطيسى طيفى ولا يوجد هذا الجهاز إلا فى معهد ناصر بالنسبة للمستشفيات الحكومية انتقل الغلام فى الإسعاف بعد اتصالات بدأت بأعلى مستوى فى المنظومة الصحية فى مصر لتتولى الإسعاف نقل الغلام يوم الخميس ويتوقف الأمر على أساس أنه يحتاج إلى فحصين ويتطلب الأمر وجود طبيب تخدير وسوف يتوافر الطبيب يوم السبت.

تم إعادة الشاب المسكين الذى يعانى من الآم شديدة نتيجة حالته التى تتطلب أعلى أنواع الرعاية وسرعة بدء العلاج الذى يتوقف بدوره على إجراء الفحص.

لبن العصفور

فى معهد ناصر بالدور الأول بقسم الأشعة الذى وصلنا إليه عبر طرقات وممرات طويلة ومنحنيات أشبه بالمتاهات التى يتطلب المرور بها خبرة أو سؤال المارة.. القسم عبارة عن غرف كثيرة يصعب عدها تطل على الممر الممدود بطول أكثر من 75 مترًا، تحمل الغرف أسماء الأجهزة وأنواعها من مقطعية إلى تليفزيونية إلى الدوبلر وغيرها.. عشرات من أجهزة الأشعة التى دفعت الدولة فيها من أموال الضرائب ما ينوء به كاهل الشعب المصرى.

على اليمين وفى نهاية الممر وفى غرفة أشعة الرنين الملحقة بالغرفة التى يسكنها الجهاز المهم الأول من نوعه والتى سمعنا عنه من القصص من تشوقنا لرؤيته وعلى أمل أن ينهى بفحصه الذى يشبه فى حالة الابن لبن العصفور الذى يطلبه استشارى المخ والأعصاب.

لا يوجد طبيب تخدير

التقينا فنى الأشعة سألناه عن دور الصبى فى الدخول، حيث يجلس الصبى فوق سرير ممدًا ومنذ ساعات انتظارًا لإجراء الفحص الذى تم تحديد موعده اليوم.

قال الفنى الذى كان يشعر على ما يبدو ، بإرهاق نتيجة عمل متواصل على حد تعبيره من التاسعة صباحًا فى حديث التقطته أذنى إلى أحد زملائه ليدور الحديث كالتالى.

قال بصوت متعب ليس اليوم.

لماذا؟... لا يوجد طبيب تخدير.

تحول الخبر كصاعقة على الوالد الذى بدأ ينفد صبره أمام آلام تعتصر فلذة كبده ومرض لم يتم تشخيصه وبالتالى يتوقف عليه العلاج.

وبالطبع لن يستطيع الطفل الثبات لمدة 45 دقيقة داخل جهاز رنين مغلق يصعب على أى إنسان البقاء داخله بثبات دون أن يكون مخدرًا.

تماسكنا أمام ردود مبتورة من فنى يتنقل بين صور الرنين على شاشة لحالات مرضية سبق إجراء فحص الرنين لها.

ومن مقر غرفة الأشعة بالدور الأول وعبر نفس الممرات الطويلة والمنحنيات المتعرجة يمينا ويسارًا هبطنا إلى الدور الأرضى حيث مدير المستشفى.

وعلينا أن نتخيل أن تتشابك كل الأمور وتتحول إلى ما يشبه عقد فى خيوط حريرية يصعب حلها.

بينما يكون الحل لدى شخص واحد إن فقدنا أثره فقدنا حياتنا كلها.. ألا وهو المدير.

كان مكتب المدير الذى لم أخط داخله منذ سنوات ،واقتصرت علاقتى بالمعهد عبر اتصالات بأطباء يتدخلون لحل مشاكل مرضى قد يلجأون إلينا أو من أرسله معهم، بسبب تعقيدات يتم صناعتها داخل المعهد بمهارة وبالطبع لصالح المستشفيات الخاصة.

مكتب المدير

كان التغيير الإيجابى بالمعهد لا يتجاوز تجهيزات استراحة مكتب المدير، بقينا لساعة فى انتظار أن يتفرغ سيادته من اجتماع بالطبع لابد أن يتصف بالأهمية، حسب تعبير الوجوه التى تدخل وتخرج من موظفين كبار وأطباء يلتصق الكارت الشخصى بالجانب الأيسر من صدورها.

انتظار يطول لساعة تقريبًا، وفى النهاية يسمح لنا بالدخول.

كان الرجل على مكتبه.. وبتعبيرات مصطنعة تأتى كلماته بجفاء، إيه المطلوب.. يشرح الزميل والد الصبى قصة موعد الفحص بالرنين والذى تم الترتيب له منذ يوم الأربعاء وتم نقل الحالة إلى المعهد بالإسعاف يوم الخميس ليتم التأجيل من أول أمس إلى اليوم.. لنكتشف أنه لا يوجد طبيب تخدير بالإضافة إلى رفض الحسابات قبول خطاب التحويل ولا تريد أن تعترف به نتيجة لوجود مديونية على مستشفى الشيخ زايد التخصصى الذى يعالج به الصبى والذى أرسل الخطاب.

ويسأل الزميل هل مطلوب منا سداد مديونية الشيخ زايد؟!

تتجه نظرات المدير صوب الزميل مين قال كدا.. يرد الزميل: موظف الحسابات.. يأمر أحد الجلوس أمامه ليتصرف.. ينصرف للتفاهم حول هذا الأمر.

يكمل السيد المدير القابع فوق مكتبه الوثير بزيه المهندم.. ومين قال مفيش دكتور تخدير؟ يرد الزميل.. فنى الأشعة.

وعبر مكالمات كثيرة من التليفون الأرضى والموبايل بين المدير وأطراف أخرى ولدقائق تمر كدهر علينا.. لينطق بكلماته لنا.. سوف يصل طبيب التخدير إلى الأشعة، وسوف تنتهى مشكلة الحسابات.

رمقنا الرجل بنظرته وكأنه ينتظر أن نشكره على خلل منظومته التى تتطلب أن يعود إليه كل مريض حتى يتم حل المشكلة.. شكرناه شكرًا جزيلًا.

أسرعنا الخطى وكأننا "جبنا الديب من ديله"، عبر نفس الساحات والدهاليز والممرات والمصاعد صعودًا والسلالم هبوطًا إلى الدور الأول بطرقة الفسيحة.. وممراته الضيقة وحشود المرضى والزائرين والأطباء والتمريض وغيرها لنصل ونحن نتصبب عرقًا إلى الأشعة، ننتظر حتى وصل الطبيب.

كان رجلا دمث الخلق، دخل غرفة الفنى ليخرج بعد قليل ويقول صعب عمل الرنين اليوم الجهاز به عطل. دار بيننا وبين الرجل حوار.

جهاز الرنين عطلان.

لا مش بالضبط ولكن جهاز المونيتور الخاص بالتخدير به عطل.

سألناه.. طيب مش فيه فنيين صيانة.

للأسف تواصلت مع المهندس المختص وعرفت منه إن دى لازم الشركة الموردة له هى التى تتولى إصلاحه.

طيب ممكن يتصل بالشركة؟

الطبيب للأسف المهندس قال وصول الشركة يحتاج إلى بضعة أيام حتى تأتى للكشف عن العطل.. ثم تحدد المطلوب، لو يحتاج صيانة يمكن القيام بها، ولو يحتاج قطعة غيار يمكن إنهاء العطل خلال يوم أو اثنين.. أما لو غير موجودة بالشركة فسوف يتطلب الأمر استيرادها من الخارج وهو ما يحتاج إلى وقت غير محدد.

لماذا تم تحديد موعد الأشعة يوم الخميس ولأسباب تتعلق بطبيب التخدير تم إرجاء الموعد إلى السبت بعد رحلة المريض من الشيخ زايد إلى معهد ناصر وسط زحام القاهرة يوم الخميس؟

ولماذا أتيتم بنا اليوم وأنتم أعلم بأن الجهاز عطلان؟

ولماذا ظل فنى الأشعة يطلب طبيب تخدير وهو يعلم أن الجهاز عطلان؟!

الغريب أن العطل حسب عمليات شرح وافية أراد طبيب التخدير التخفيف عنا أمام معاناة صبى وحزن وقهر الأهل وصل بنا أن العطل يتلخص فى تلف بطارية المونيتور الخاص بجهاز الرنين.

وبسببه يتوقف جزء كبير من عمل معهد ناصر.. المدينة الطبية التى تضم 1000 سرير ويتأخر فحوصات لمرضى تتطلب حالتهم سرعة التشخيص خاصة وإن كانت حياتهم قد تتوقف على دقائق وليست أيامًا طويلة تتطلب إبلاغ الشركة المصنعة للجهاز وعمليات فحص وتحديد واستيراد قطعة غيار.

أعدنا الكرة إلى مكتب المدير الدكتور حازم الفيل ولكن لم يكن بالمكتب كان قد خرج الرجل إلى بيته تاركًا خللا ليس فى اجهزة ولكن فى عقول تبلدت ونفوس أصابها العطب وقلوب خربة لا تعرف للإنسانية طريقًا ولا للمريض حقًا.

ولم يبق بالمكتب سوى سكرتيرته التى أصبحت مثل الدوبلير تتحمل عنه حصاد إهماله.

ولا أظن أن ما صادفنى بمعهد ناصر على مدار ساعات طويلة يرجع إلى ضعف تمويل ولكنها أزمة قيادة لا تعرف عن الواجبات شيئا ولكنها تعيش لتحصد حقوقًا من رواتب وحوافز وبدلات ضخمة بقدر الإهمال وليس على مستوى الإنجاز.

معهد ناصر الذى كان

انسابت من عينى دموعًا ليست حزنا فقط على صبى ربما يفقد حياته بإهمال وجهل ولامبالاة من مسئولين ولكن على مدينة طبية كنا نباهى بها العالم فإذا بها تصاب بالسكتة الدماغية بسبب بطارية جهاز ربما لا يتجاوز سعرها بضعة دولارات.

هنا أدركت ضرورة أن ندعو الله أن يكون الموت أسرع لنا ولمرضانا من إسعاف ومستشفيات وزارة الصحة.. حتى لا ينهار من يبقى على قيد الحياة قهرًا وكمدًا وغيظًا بسبب أناس بينهم وبين الإنسانية والرحمة عداء كعداء كفار قريش لرسالة الإسلام.