أسامة داود يكتب: حسن يونس من مطاردة الذئاب إلى القرار النووى (2)

كان مجرد الحديث عن تبنى القيادة السياسية فى مصر لقرار إنشاء مشروع نووى سلمى من رابع المستحيلات وكانت أرض الضبعة التى تتجاوز مساحتها 45 كيلومترًا مربعًا بطول 15 كيلو وبعمق 5 كيلو مترات على شاطئ البحر المتوسط بمنطقة الضبعة التى تبعد 180 كيلو متر غرب الإسكندرية قد أسالت لعاب حيتان المال العام من رجال الأعمال ومنهم إبراهيم كامل مدعومًا من جمال مبارك وغيره وبالتالى من حكومة أحمد نظيف.

هنا فقط أطرح تفاصيل خطة حسن يونس وزير الكهرباء فى ذلك الوقت والتى نجح من خلالها بانتزاع أهم وأخطر قرار يهم مصر كوطن فى عهد مبارك ألا وهو قرار تنفيذ مشروع مصر النووى والذى كان سببًا فى انتزاع أرض الضبعة من بين أنياب ومخالب الذئاب والضباع والثعالب.

فى مواجهة الحيتان

كان حسن يونس بعدما استطاع مواجهة الحيتان المتربصة بأرض الضبعة المكان الوحيد الذى أثبتت كافة الدراسات والمتابعة أنه الأنسب لإنشاء المشروع النووى المصرى، قد تقدم بتقرير للرئيس مبارك كشف فيه عن مخاطر سوف تتعرض لها مصر قريبًا بسبب الطاقة.

[caption id="attachment_14096" align="alignnone" width="300"]المهندس حسن يونس وزير الكهرباء الأسبق المهندس حسن يونس وزير الكهرباء الأسبق[/caption]

كان الرجل يعلم أن سياسة الرئيس هى التحرك السريع فقط وقت الشعور بالخطر ومع عدم قدرة حقول الغاز على مواجهة احتياجات محطات الكهرباء للغاز الطبيعى بالإضافة إلى ارتفاع أسعاره والتى كانت قد تحركت عالميًا لتصل إلى مابين 12 و15 دولارًا للمليون وحدة حرارية وهى وحدة القياس الخاصة بالغاز الطبيعى.. مع حاجة مصر إلى زيادة الاحتياجات من الكهرباء سنويًا وبنسبة لا تقل عن 10%.

الحرس القديم والحرس الجديد

لم يكن حسن يونس فنيًا فقط مثل سلفه الدكتور على الصعيدى ولكنه تعلم من ماهر أباظة القدرة على المناورة وهو ما جعله يعيش 10 سنوات قبل ثورة يناير 2011 بين أكبر تكتلين فى الحكم وهم الحرس القديم والذى يمثله مبارك الأب وجماعته وبين الحرس الجديد مبارك الابن وشلته والتى تمكنت من مفاصل الدولة بعد تشكيل أكبر تكتل حكومى يجمع بينهم المصاهرة والبيزنس والمصالح الشخصية وفوق كل ذلك كان هذا التكتل يمتلك المكيدة والقدرة على كسر ذراع كل من يقترب من مصالحهم أو مناطق نفوذهم.

[caption id="attachment_14097" align="alignnone" width="100"]المهندس ماهر أباظة وزير الكهرباء الأسبق المهندس ماهر أباظة وزير الكهرباء الأسبق[/caption]

والتكتل يتكون من محمد منصور "شيفروليه" وأحمد المغربى وتربطهما صلة نسب مع المهندس رشيد محمد رشيد والذى تربطه بهما مصالح وبيزنس هذا من جانب وبين بطرس غالى وزير الاقتصاد وتلميذه النجيب محمود محيى الدين الذى لم يكن يوما إلا رجل بطرس الذى كان سببا فى وصوله الى مقعد الوزارة، رغم عبقرية محمود محى الدين السياسية باعتباره نشأ فى بيت آل محيى الدين وهم رجال ثورة 23 يوليو وبين تربيته فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.

قلنا العبقرية الفنية لـ حسن يونس والقدرة على المناورة يضاف إليهما شفافية الرجل ونقاء سريرته جعلته يحافظ فى التعامل مع تلك الكتلة التى كنت أرى فيها مزيجًا من الذئاب والثعالب- ولأسباب سوف أوضحها فيما بعد- قد استطاع يونس الحفاظ على شعرة معاوية فيما بينهم وبينه لم يجعلها ترتخى حتى لا يكون واحدًا من رجالهم ولم يشدها فتتحول إلى نصل سكين يكون أحد ضحاياها. اختيار التوقيت.

اختار حسن يونس توقيتًا كانت الشركات الأجنبية والتى تمتلك القدرة على التنبؤ بالأحداث العالمية لعلاقتها بأجهزة استخباراتية عالمية، ولشعورها بالخطر القادم والذى يتهدد بعض دول العالم العربى فيما يسمى بالربيع العربى.

كانت مصر من تلك الدول باعتبارها من الجمهوريات التى تتسم بالديكتاتورية بجانب مصر ليبيا وتونس والجزائر واليمن وسوريا والسودان والتى بها زعماء قرروا عدم تخليهم عن كراسى الحكم بل وإصرار بعضهم رغم مرور ما بين 30 و50 سنة على كل منهم فى الحكم، على توريث دولهم لأبنائهم وتحويل كراسى الرئاسة الى عروش.

كانت رياح التغيير بدأت تأتى فى شكل لفحات ومع بدء انصراف العديد من تلك الشركات عن تنفيذ خطط البحث والاستكشاف عن الغاز والبترول فى تلك الدول ومنها مصر مما أثر على حجم الإنتاج مع العلم أن حقول الغاز أسرع تراجعًا عن الزيت الخام وهو ما حدث بالفعل ورغم أنه كان تراجعا طفيفا إلا أنه أحدث نوعًا من التأثير فكان هناك انقطاع للكهرباء ترتب عليه تخفيف للأحمال فى بعض المناطق.

حمل يونس التقرير مع اختيار الوقت المناسب مع تحييد تكتل وزراء البيزنس والمصالح ليلتقى بالرئيس مبارك.

كان تقرير يونس الذى يحمل فى أحشائه المعلومات بكل دقة قد أصاب مبارك بالفزع من مستقبل الطاقة فى مصر.

حسن يونس الذى يتسم بالهدوء لم يكن فقط مجرد ناقل أمين لحالة الطاقة فى مصر وكما يريد أن يبدو أمام الرئيس خوفًا من رفض الأخير التحرك وباعتباره لا يقبل على قرار مهم إلا وقت الخطر. كان سرد التقرير بطريقة حسن يونس غالبًا ما يختار كلماته بعناية وبهدف أن تصل إلى قلب وليس أذنى سامعه.

الازمة وسيناريوهات الحل

بعدما شرح يونس ما يحمله التقرير بكل دقة.. تتبعت عينا يونس وبدهاء التعبيرات التى ترتسم على وجه الرئيس الذى أصبح مهيأ لاتخاذ ما يلزم من قرارات للابتعاد عن الكارثة التى من الممكن أن تهدد كيان الدولة وليس كرسى الرئاسة فقط.

وفى الوقت الذى تهيأ الرجل للتفاعل مع الأمر ألقى يونس للرئيس فورًا بسيناريوهات الحل وكان أولها أن زيادة عدد محطات الطاقة الحرارية ولكن الاعتماد عليها لن يكون عمليًا بل جعل الطاقة الحرارية تمثل عبئًا إضافيًا على خزانة الدولة المتمثلة فى الدعم والذى وصل وقتها إلى حوالى 60 مليار جنيه منها جزء كبير يخص دعم الوقود المستخدم فى محطات الكهرباء من غاز ومازوت. بالإضافة إلى وجود تراجع فى إنتاج الغاز الطبيعى بسبب تراجع قدرة الحقول وتقادمها بالإضافة إلى ارتفاع غير مبرر فى أسعار المازوت عالميًا كما أن الطاقة المتجددة غير أقتصادية لإرتفاع تكلفتها، وغير عملية لعدم استدامة قدراتها على توفير كهرباء مستقرة لأرتباطها بالحالة المناخية معدلات سرعة الرياح او درجة سطوع الشمس، ورغم ضرورة السير فى التوسع فيها إلا أنها لن تكون البديل الأنسب حاليًا ولسنوات طويلة.

وكان يكشف عن قصور فى كل المجالات التقليدية التى يمكن الاعتماد عليها فى توليد الكهرباء لينجح فى الوصول بالرئيس إلى أن جعله يطرح سؤالاً.. تلقفه يونس كما يتلقف الصياد الماهر لصيده بعدما حول تقريره إلى طُعم.. وكان سؤال الرئيس والذى نطقه بطريقة من نفد صبره بعد أن ثقل حمله.. إيه الحل العملى لتوفير الكهرباء بشرط ألا يكون مكلفًا لخزانة الدولة؟

يفاجئه يونس بأن الحل الوحيد هو الطاقة النووية والتى قال إنها تحتاج إلى قرار سياسى سريع.. مستتبعا ذلك بقولة تكلفة وقودها منخفضة جدا والحصول عليه سهل للغاية ويمكن توفيرها محليا بالتصنيع بعد سنوات وكل تكلفتها الفعلية فى الاستثمارات الخاصة بالإنشاء فقط.

كانت خبرة الرجل الذى لم يكن مجرد دكتور مهندس خبير بالجانب الفنى فقط ولكنه كان قد تعلم من ماهر أباظة الدهاء السياسى والقدرة على الإفلات من حيل الثعالب وأنياب الذئاب.

ومن تعبيرات وجه الرئيس كان حسن يونس يقدم إجابات عن تساؤلات يقرأها على وجهه حتى أصبح مبارك مع تقرير حسن يونس يتلقى كل الإجابات عن تساؤلات لم ينطق منها حرفًا واحدًا.. من تلك الإجابات.. نحتاج فقط مجلس أعلى للاستخدامات السلمية للطاقة النووية، برئاسة فخامتك وتضم السيد رئيس الوزراء وعدد 15 وزيرًا منها الدفاع والبترول ووزراء المجموعة الاقتصادية وغيرها من الوزارات.

ولدينا خبرات كبيرة فى تشغيل تلك المحطات بل لدينا القدرة على تصنيع جزء كبير من تلك المحطات لأنها تقريبا هى نفس المحطة الحرارية والأجزاء المختلفة بها هى المفاعل والكونترول.

الامان النووى

وقبل أن يبدى الرجل مخاوفه من معامل الأمان ينطق يونس: الأمان النووى حاليا بنسبة 100%. وأن دخولنا مجال توليد الكهرباء من محطات نووية سوف يرفع من قدرات المجتمع ومن كفاءة الصناعة المحلية التى ليس أمامها إلا التطوير والتوأمة مع مثيلتها الأجنبية وبالتالى نحتاج من سيادتك إلى القرار.

وحسن يونس الذى يملك وجهًا بشوشًا ويتسم بالهدوء وعبقرية هندسية ممزوجة بدهاء السياسة استطاع أن يحصل من الرئيس على القبول بإصدار قرار تاريخى بتنفيذ مصر مشروعها بالاستخدامات السلمية للطاقة النووية بإنشاء 4 محطات لتوليد الكهرباء بطاقة ألف و٢٠٠ ميجاوات لكل محطة وهو نفس المشروع الذى تنفذه مصر حاليا.

[caption id="attachment_14098" align="alignnone" width="300"]الرئيس الأسبق حسني مبارك الرئيس الأسبق حسني مبارك[/caption]

كان دور حسن يونس من الصعوبة ليس بإقناع القيادة السياسية التى أدمنت التراجع طوال تاريخها فيما يخص المشروع النووى السلمى المصرى وفقط بل كان القرار يمس فى المقام الأول لوبى المصالح من جناح جمال مبارك وصهره الجمال وإبراهيم كامل ومجموعة رجال أعمال كانوا قد بيتوا النية بل أعلنوها تصريحًا لا تلميحًا برغبتهم فى انتزاع أراضى المشروع النووى بالضبعة من قبضة وزارة الكهرباء وتحويلها الى مشروعات سياحية.

كيف لا وهم لا يعنى الوطن بالنسبة لهم سوى خريطة يبتلعونها وبقرة يشربون لبنها ويأكلون لحومها.

القرار النووى أم الكارثة؟!

بعد أيام وفى نوفمبر 2009 عقد الاجتماع الأول ليتحول إلى فرصة استعرض فيها حسن يونس عشرات الأسباب التى تجعل من دخول المجال النووى السلمى زورق النجاة لمصر ليس فقط بتوفير الكهرباء وإن كانت هذه واحدة. ويؤكد يونس أنه من السهل شراء محطات طاقة نووية لتوليد الكهرباء جاهزة التركيب فورا.. ولكن الهدف هو الإنشاء بما تعنيه الكلمة من معنى وهو أن تبنى السواعد المصرية مشروعًا نوويًا يتبعها ما أشار إليه يونس وهو توطين التكنولوجيا النووية للدخول فى مجالات مثل الزراعة بتحسين وتطوير البذور ورفع معدلات التوسع الرأس بمضاعفة إنتاجية الأرض الزراعية والبذور واستصلاح وزراعة الأراضى الصحراوية والقدرة على توظيف المياه عالية الملوحة فى الزراعة، أيضا توطين التكنولوجيا النووية فى كل المجالات منها الطب لتطوير القدرات التشخيصية والعلاجية بالإشعاع ومكافحة الأمراض وغيرها من مجالات تهدف إلى بناء مجتمع علمى تكنولوجى متقدم.

كان القرار والذى لم يكن قد اتخذ ولكن كانت مؤشراته واضحة بعدما نجح حسن يونس ومن الاجتماع الأول من خلال طرح الملف بأسلوب علمى، فنى، اقتصادى، وطنى، الأمر الذى جعل متابعيه من أعضاء المجلس الأعلى للاستخدامات السلمية للطاقة النووية يتأكدون أن القرار السياسى سوف يصدر مع أول اجتماع للمجلس.. وهنا تسربت المعلومات إلى صحيفة الأهرام والتى كان يرأس تحريرها فى هذا الوقت الأستاذ أسامة سرايا.

نشرت الأهرام الخبر فى صدر صفحتها بعنوان الرئيس يصدر قرار دخول مصر عصر المحطات النووية السلمية.

تصادف فى هذا اليوم وصول الدكتور حسن يونس إلى مجلس الشورى للرد على بعض الاستفسارات فى أمور أخرى.. قوبل الرجل بعاصفة من التصفيق ولحصافة الرجل أمسك بالميكروفون ونفى أن يكون هناك قرار صدر حتى الآن واعتبر ما نشرته الأهرام غير دقيق.. كان الرجل يعلم أن الرئيس مبارك ليس ممن يتسامح أن يعلن عن قرار قبل أن يوقعه وبالتالى خشى أن تحدث تدخلات أو ضغوط أو من باب تعنت الرجل فيتم وقف أو إلغاء القرار الذى لم يكن قد حان وقت صدوره.

القرار الأهم

ولم تمض أيام حتى عقد الاجتماع الثانى فى أغسطس 2010. ليكون القرار الأهم فى تاريخ مصر كلها خلال عصر مبارك وبعد أن نجح يونس فى مطاردة الذئاب والثعالب والضباع بعيدًا عن أرض الضبعة..

ليصدر القرار بتنفيذ مصر للمشروع النووى السلمى بإنشاء ٤ محطات لتوليد الكهرباء بطاقة ١٢٠٠ ميجا لكل محطة.

وتعمدت أن أشير للجهد الذى بذله حسن يونس لانتزاع قرار يعلم الجميع أنه لم يكن من السهل انتزاعه.

خاصة وقد كانت حكومة الدكتور نظيف ومعظمهم الحرس الجديد وهم رجال وجماعة جمال مبارك الذين يتولون تجهيزه لوراثة عرش مصر الجمهورى.

كانوا جميعًا يسعون لانتزاع أرض الضبعة من قبضة وزارة الكهرباء لتحويلها إلى مشروعات سياحية على طريقة السبوبة.