أسامة داود يكتب : قراءة فى اتهامات قنديل... ما بين الإدانة والبراءة ( حلقة 20 )

أسامة داود يكتب : قراءة فى اتهامات قنديل... ما بين الإدانة والبراءة  ( حلقة 20 )

>> وصل الأمر بخصومه إلى حد الاتهام الصريح بإهدار المال العام بل والخيانة الوطنية

>> الرجل كان يستطيع أن يظل بموقعه لو وافق على تصدير الغاز لإسرائيل


>> رفض أن يجدد بنفسه دماء كامب ديفيد فى الغاز مثلما حدث فى تصدير الزيت الخام


>> جعل المشروع  مصر تحتل المركز الثالث فى إنتاج البتروكيماويات عالميًّا بعد السعودية وإيران 


>> لم يكن وزيرًا مؤذيًا يقيل قياداته دون سبب بل كان صارما


>> كان يلتقط كل النجوم ويضعهم فى موقع الصدارة ويمنحهم كامل السلطات


>> لم يكن ممن يترك أذنيه تلتقطان الوشايات أو المكائد من مرءوسيه ضد بعضهم 


>> كان يوقع جزاءات بالخصم ثم يقوم بصرفها من جيبه الخاص لمن تم الخصم منه


>> لو كان أحد غيره لما نهر مسئولاً أراد الحصول على أعمال مع قطاع البترول بوساطة شقيق الوزير


>> تصدى لعاطف عبيد عندما كان وزيرًا لقطاع الأعمال العام وأراد بيع عدد من شركات البترول


>> لو كان يريد تحقيق مكاسب لما تدخل بعد تركه للوزارة لوقف عملية بيع شركة غاز مصر


>> معمل أسيوط الذي أنشأه لعب دوراً هاماً فى إنقاذ مصر من مجاعة للمنتجات البترولية


>> كان يملك أسلوب الخداع ويوحى لك بعكس ما ينوى القيام به وتنفيذه


>>  دعم شركة  بتروجت بدلاً من تركها لقمة سائغة أمام الشركات الأجنبية التى كانت تحاربها


>> تحمل مهمة حماية الأمن القومى المصرى ببناء صناعة بترولية بأقل الإمكانات


>> اتهموه بإهدار مئات الملايين من الجنيهات فى إنشاء مجمع للبتروكيماويات


لم يتعرض مسئول لما تعرض له الكيميائى عبد الهادى قنديل من نقد ووصل الأمر بخصوم قنديل إلى حد التجريح والاتهام الصريح بإهدار المال العام، بل والاتهام بالخيانة الوطنية ، وهي اتهامات تخالف المنطق.

كانت نوعية الاتهام غالبًا تخاصم المنطق لرجل كان يستطيع أن يظل بموقعه لو وافق على تصدير الغاز لإسرائيل، بعدما واجهه مبارك بمعلومات أمريكية تفيد أن مصر لديها احتياطى كبير من الغاز الطبيعى.

ولكنه أصر على عدم صحة المعلومات الأمريكية، مؤكدا أن إجمالى الإحتياطيات من الغاز الطبيعى لا تتجاوز 18 تريليون قدم مكعب تحتاج إليها مصر واستهدف قنديل أيضاً أن لا يجدد بنفسه دماء كامب ديفيد فى الغاز مثلما حدث فى تصدير الزيت الخام.

اتهموه بإهدار مئات الملايين من الجنيهات فى إنشاء مجمع للبتروكيماويات، الذى تضمن البدء بإنشاء وحدة لإنتاج مادة البولى فينيل كلورايد ((PVC رغم أنها كانت اللبنة الأولى فى بناء صناعة بتروكيماويات مصرية

كانت البتروكيماويات المصرية ومشروع الـ (P V C) والذى يعتمد على الإيثيلين كمادة خام الدافع وراء إقامة مصر لصناعة إيثيلين واسعة، تحقق لمصر سنويًّا مليارات الجنيهات معظمها بالعملة الصعبة ومن خلال شركتى سيدى كريرللبتروكيماويات والمصرية لصناعة الإيثيلين.

لقد حقق هذا المشروع لمصر الخبرات التى أقامت صناعة جعلت مصر تحتل المركز الثالث فى إنتاج البتروكيماويات عالميًّا بعد السعودية أكبر منتج فى العالم ثم إيران ثم مصر.

كان الهجوم على الرجل كعرض مستمر، ربما لأن عبد الهادى قنديل وحسبما قرأته وما سمعته عنه كان صارمًا، ما إن يتواجد بمكان حتى يتملك الجميع نوع من الرعب، ليس باعتباره وزيرًا مؤذيًا يقيل قياداته دون سبب، أو ينكل بهم لمجرد أنهم دخلوا دائرة الضوء بإنجازات؛ خوفًا من أن يصل طنينها إلى مسامع القيادة السياسية، فيكون من بينهم البديل له، ولكنها كاريزما الرجل التى منحه الله إياها.

لم يشعره الأقوياء من حوله بالخوف، والسبب أنه هو من كان يلتقط كل النجوم، ويضعهم رغم حداثة أعمارهم فى موقع الصدارة، وكان يترك لهم المسئوليات، ويمنحهم كامل السلطات، ثم يكون الحساب بالثواب الذى به يمدح ويغدق، أو بالعقاب الذى ربما لا يتجاوز حد التعنيف.

كانت كلماته الحادة تحل موضع العقوبات، وكان الجميع يعرف قدر الرجل وقوته فى الحق.. لم يكن ممن يترك أذنيه تلتقطان الوشايات أو المكائد من مرءوسيه ضد بعضهم بعضًا.

حتى إنه فى بعض الأحيان كان يوقع جزاءات بالخصم، ثم يقوم بصرفها من جيبه الخاص لمن تم الخصم منه، مع البقاء على العقوبة فى ملفه كنوع من العبرة له ولغيره.

كان كالأب والأخ فى تعامله مع مرءوسيه، وكان يصر على قضاء الإجازات مع أسرته فى المناطق السياحية التابعة لقطاع البترول؛ ليعيش وأسرته مع العاملين وأسرهم؛ بهدف نشر روح الأسرة الواحدة.

رؤية تقاسيم وجهه توحى إليك بمزيج من القسوة والغلظة، ولكن أيضًا الشموخ، بأنفه المدبب وعينيه الثاقبتين، وصفحة وجه رغم الشيخوخة لا تزال تمثل مزيجًا من الصرامة والحسم.. ربما كانت صورته تلك تمثل سلاحًا فى حياة الرجل حقق له فى مهامه القيادية مع مرءوسيه ما لا تحققه سيوف العقوبات.

لكن هناك سؤال: لماذا تحمَّلَ الرجل كل تلك الاتهامات، والتى وصلت، بعد قراره بتعديل اتفاقيات البحث والاستكشاف عن الغاز الطبيعى، إلى حد رميه بالخيانة الوطنية؟

هل كان يحرص على موقعه فى الوزارة إلى الحد الذى يمكن معه تنفيذ تعليمات تستهدف إرضاء رؤسائه؟

وهنا أقول لو كان عبد الهادى قنديل يحرص على موقعه، لما طرد أخوى السادات من مكتبه عندما أرادا أن يحصلا على توكيل لتسويق كميات من الزيت الخام.

ولم يكن يطرد سامى مبارك شقيق الرئيس مبارك عندما أخبره نائب التجارة الخارجية بوجوده فى الهيئة.

ولو كان أحد غير عبد الهادى قنديل لما نهر مسئولاً أراد الحصول على أعمال مع قطاع البترول بوساطة شقيق الوزير.

ولو لم يكن عبد الهادى قنديل وطنيًّا من شعر رأسه حتى أخمص قدميه، لما تصدى للدكتور عاطف عبيد عندما كان وزيرًا لقطاع الأعمال العام وأراد بيع عدد من شركات البترول.

ولو كان يريد أن يحقق مكاسب مادية أو مجدًا شخصيًّا، ما كان ليتدخل وبعد تركه للوزارة لوقف عملية بيع شركة غاز مصر، بعدما تسلم كمال الجنزورى شيكًا بمبلغ 200 مليون دولار من مجموعة مستثمرين وقيادات سابقة بقطاع البترول.

كان عبد الهادى قنديل كالسيف يستطيع التفرقة بين الحق والباطل.

ولو لم يكن وطنيًّا لما قام هو وسلفه أحمد عز الدين هلال بإنشاء شركة أبو قير للأسمدة ثم شركة حديد الدخيلة، بعدما اقتنع بأهمية المشروع لصالح مصر وبعد انسحاب اليابان ورفضها تمويل المشروع.

ولما اعترف بأن صاحب الفكرة هو إبراهيم سالم محمدين إحدى القامات الصناعية فى مصر ووزير الصناعة الأسبق.

قلت له: حسب ما لدىَّ من معلومات فأنت صاحب فكرة إنشاء شركة بتروجت. فردَّ الرجل: بل أستاذى وأخى الدكتور رمزى الليثى هو صاحب الفكرة. كان قنديل يرجع الفضل لأهله، ولم يُحِبَّ أن يُحمَد بما لم يفعل.

اتهموه بما يستحق التكريم عليه!

كان عبد الهادى قنديل يقول - حسبما ردد خصومه - إنه ليس من صالح مصر زيادة القدرة التكريرية للزيت الخام؛ لوجود فائض، وإن من مصلحة مصر أن تتولى تصدير الخام بدلاً من تصدير المنتجات، وفى نفس الوقت قرر رصد 250 مليون جنيه لإنشاء معمل تكرير أسيوط، وتعرض للهجوم بسبب تلك الواقعة، وقالوا إنه يهدر المال العام، ويقيم معملاً ليس لمصر حاجة له، بينما فى الحقيقة كان للمعمل دور هام فى إنقاذ مصر من مجاعة للمنتجات البترولية.

ويسأل منتقدو عبد الهادى قنديل: لمصلحة من إنشاء معمل لتوفير منتجات، بينما تحصل مصر على كافة احتياجاتها من المعامل الـ6 التى تمتلكها الدولة، وهى السويس والنصر والقاهرة وطنطا والإسكندرية والعامرية؟

وأقول - والرجل فى ذمة الله - إن التاريخ أثبت أن معمل أسيوط حقق جزءًا من استقرار المنتجات البترولية لمصر، خاصة فى الصعيد، الذى لم يكن يملك أى تغذية له إلا عبر النقل باللوارى بالطريق البرى الوحيد الممتد من القاهرة إلى أسوان وبالصنادل عبر النيل الذى يتوقف النقل به وقت السدة الشتوية، وبالقطارات عبر خطوط السكك الحديدية، بما يمثله من خطر وحدوث أزمات.

بالإضافة إلى أن مثل عبد الهادى قنديل أو غيره من القائمين على قطاع البترول لا يضع خطة لإنشاء مشروع إلا وله احتياج، إن لم يكن اليوم فغدًا، بل اعتبر البعض أن خط نقل الخام من منطقة شقير إلى أسيوط الذى يتولى تغذية المعمل باحتياجاته من الزيت الخام وبتكلفة 64 مليون جنيه يأتى من باب الإسراف الزائد، بينما يمثل النقل للخام عبر الخطوط الشىء الطبيعى والاستراتيجى والأكثر وفرًا وأمانًا وحماية من النقل بواسطة الشاحنات وعبر الطرق، وهو ما يحقق الهدف بأقل تكلفة ودون حوادث أو نسب فقد من الخام أثناء نقله.

وأقول إنه ما كان لرجل مثل عبد الهادى قنديل إلا أن يعمل وفقًا لاستراتيجيات، وهو ما اكتسبه من العمل زمن الحرب، فى وقت لم يكن لدى مصر بترول سوى حقل المرجان فقط، تعلم الرجل أن يعلن أحيانًا ما لا يُبطِن؛ بهدف تحقيق المفاجأة وتفويت فرصة التدبير على من لهم مصالح قد تدفعهم لعرقلة ما يخطط الرجل له لصالح قطاع البترول الذى يمثل حياته.

ليس مثل عبد الهادى قنديل الذى يكشف كل أوراقه بعدما تعامل مع مواقف تطلبت الحصول على منتجات بترولية، ولم يكن لدى مصر سوى معمل الإسكندرية محدود القدرات، بعدما تم تدمير معملى السويس والنصر؛ مما اضطره إلى معالجة الزيت الخام عبر تعريضه لأشعة الشمس؛ حتى تتطاير المواد البترولية الخفيفة منه، ليستخدم الزيت مباشرة لتوليد الكهرباء كبديل للمازوت، وهو ما كان يعتبر اختراعًا وقدرة على التصرف وإدارة الأزمات، أقول ليس مثله من يقيم مشروعات لا أهمية لها.

إن الحياة التى عاشها عبد الهادى قنديل كإحدى القيادات التى حملت على كاهلها توفير كافة الاحتياجات من الزيت الخام والمواد البترولية لجيش كان تقرر أن يخوض حربًا طالت لسنوات، وهى حرب الاستنزاف وحربًا مكثفة استمرت لأسابيع، وهى حرب 1973، كفيلة بأن تجعله رجلاً من فولاذ. 


الحرب علمتنى


ومن هنا كان عبد الهادى قنديل يملك أسلوب الخداع، يوحى لك بعكس ما ينوى القيام به وتنفيذه، وبالتالى كان وضع اللبنة الأولى لأول مجمع بتروكيماويات فى العامرية، وهو ما حقق لمصر وفورات تتمثل فى حقن نزيف العملة الصعبة التى كانت توجه للخارج؛ للحصول على احتياجاتنا من المواد البتروكيماوية من الإيثيلين والبولى إيثيلين وغيرهما من خامات، بالإضافة إلى تدريب وتأهيل المئات من الخبراء المتخصصين، وهم من نشأت على أكتافهم شركات، مثل سيدبك وإيثيدكو وإيلاب وغيرها.

ولو لم يكن عبد الهادى قنديل وقرار إنشاء معمل أسيوط، لتعرضت مصر لمجاعة فى المنتجات البترولية. وكان الأحرى بمنتقدى الرجل أن يراجعوا أنفسهم، حيث لم يمر أكثر من 15 عامًا على هذا التاريخ إلا وبلغت مجاعة مصر من المنتجات مبلغها، رغم وجود معمل أسيوط ومن بعده معمل ميدور أيضًا، حيث نستورد 50% من استهلاكنا من بعض المنتجات.

فماذا لو لم يكن هناك معمل أسيوط ومن بعده ميدور؟

طال الانتقاد أيضًا شركة بتروجت، فقالوا عنها إنها تحصل على الأعمال بالأمر المباشر وبسعر يفوق ما يمكن أن تحصل عليه الشركات الأجنبية المنافسة.

وتتواصل الانتقادات متمثلة فى السماح لشركة بتروجت بإنشاء ميناء بحرى بمنطقة أبو قير دون أن يندرج المشروع فى موازنة هيئة البترول 1984/1985. ولمن لا يعلم فإن هذا المشروع حققت فيه بتروجت أرباحًا ضخمة، رغم أن قيامها بالتنفيذ كان أقل بكثير من قيمة المشروع لو تم إنشاؤه عبر الشركات الأجنبية.

وأقول أيضًا إن الانتقادات التى تم توجيهها للرجل بسبب دعمه لشركة  بتروجت بدلاً من تركها لقمة سائغة أمام الشركات الأجنبية التى كانت تحارب نشأة بتروجت، وكانت تحصل على الأعمال من قطاع البترول بأضعاف قيمتها الحقيقية، أثبتت الأيام أنها كانت انتقادات غير موضوعية، بل ظالمة، خاصة بعدما تأكد للجميع أن بتروجت حققت لمصر الكثير، فقد أصبحت ذراع قطاع البترول التى تمتد من خلال العديد من المشروعات التى تتولى تنفيذها داخل 13 دولة عربية وإفريقية بخلاف ما تقوم بتنفيذه من مشروعات قومية كبرى فى مصر.

ماذا لو عاد الزمن للوراء؟ ألم يكن من حق عبد الهادى قنديل الذى تحمل مع صاحبيه أحمد عز الدين هلال ورمزى الليثى مهمة حماية الأمن القومى المصرى ببناء صناعة بترولية بأقل الإمكانات، أن نقدره لا أن نتهمه؟

ألم نسأل أنفسنا كيف تمكن هؤلاء الأبطال ومعهم الكثيرون من تحقيق معجزة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى بتدبير احتياجات الدولة من مواد بترولية تحت نيران القصف لقوات العدو؟

 بالإضافة إلى ما قاموا به من توفير الاحتياجات الضرورية للآلة العسكرية من مواد بترولية.. ألم نسأل أنفسنا كيف كان لمصر أن تدير محطات الكهرباء بينما لا يوجد أى كميات من المازوت بعد تدمير معملى النصر والسويس لتكرير البترول؟ 

علينا جميعًا أن نقف تحية لعبد الهادى قنديل وتحية إلى أحمد عز الدين هلال وتحية إلى رمزى الليثى وعشرات آخرين سوف يأتى ذكرهم.



إقرأ فى الحلقة 21 

خبراء البترول الذين عاصروا قنديل يردون على مذكراته