 (1).jpg)
مصعب صلاح يكتب : نور رمضان .. وظلمات الإنسانية

لقد كان في شهر رمضان بداية الوميض للنور الذي بدد الظلمات التي أطبقت على العالم الإنساني طوال قرون.
فإذا نظرت لأحوال الأمم قبيل بعثته (ﷺ) تجد أنها وصلت إلى الدرك الأسفل من مستنقع الفاحشة والرذيلة والانحلال، بحيث لو أردت أن تصف حال العالم في تلك الفترة لن تجد أبلغ ولا أوجز ولا أجمل ولا أحسن من قول النبي (ﷺ) فيما يخبر به عن ربه عز وجل ملخصاً حال أهل الأرض في تلك الفترة بقوله :" وإن الله نظر لأهل الأرض فمقتهم - أبغضهم أشد البغض- عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب" تسكن الصوامع والبيع والأديرة لا تستطيع أن تنكر منكراً ولا أن تغير رذيلة بأمر بمعروفٍ أو نهي عن مستقبحٍ مرذول؛ لم يكن منهم إلا أن اعتزلوا الناس فرارا بدينهم، ليس لهم أي تأثير في المجتمع.
إذا ما نظرت لأحوال الأمم في المعمورة وأمور الدول والإمبراطوريات الكبرى ستجد أنها أطبقت عليهم ظلمات الانحلال والتحلل من الفضائل والقيم، واستحكمت في نفوسهم الرذائل والفواحش، وانطبعت أفئدتهم على الشرك، وعبادة الأحجار والأشجار والعجول الأبقار.
أظلمت الدنيا بظلمات الضلال، ظلمات يعلوها ظلمات وضلال فوقه ضلال، ضلال في العقيدة والإيمان، وخراب في السلوك والأخلاق والاعمال.
فالهند يعبدون من دون الله كل شيء من صنم إلى عجل وبقرة، وفأر وحشرة.
وفارس انتشرت فيها الإباحية المزدكية الانحلالية.
وأما الرومان فمع فلسفة عقيمة جعلت التجاسر على الله مستساغاً سهلاً ميسوراً لدى عوام الناس وأفراد الشعب، إلى انشغال بالترف واللهو واللعب، فمن ميادين ومدرجات لمشاهدة مصارعة البشر مع البشر أو مع الحيوان، إلى إباحية بالنساء، وانتشار للزنا، وعبور للحدود المحرمة، وانتهاك لحمى الله "ألا إن حمى الله محارمه".
وفي وسط تقلب البشرية في هذه الظلمات ومقت الله لها عربها وعجمها إذ لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً؛ ضاع الضعيف باسم الطبقية المزرية التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ في وسط ذلك أراد الله تعالى بالبشرية خيراً فجاء شهر رمضان المبارك مؤذناً بإنتهاء تلك الحقبة، منذراً بنورٍ سيبدد تلك الظلمات.
شاء الله تعالى أن يصل أهل الأرض بنور من السماء، وكان هذا النور هو رسول أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
" قد جاءكم من الله نور - هو رسول الله - وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم"
هذا النور بُشرت به آمنة بنت وهب من أول يوم حملت في رحمها تلك البذرة الشريفة الطاهرة النقية التي بدد نورها ما بين المشارق والمغارب من ظلماتٍ علا بعضها بعضا.
لقد كان شهر رمضان المبارك بداية سطوع شمس الرسالة الغراء والشريعة البيضاء التي بددت ظلمات براكين الشر المحرقة للفضائل والقيم، المهلكة للنفوس والقلوب، سطعت تلك الشمس فحولت ليلنا نهارا وظلماتنا نورا كما قال النبي ﷺ : " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" لانغماسه في الظلمات وعدله بها عن النور الرباني الحق.
(إن الرسول لنور يستضاء به... مهند من سيوف الله مسلول)
جاء النبي ﷺ برسالته الخاتمة المتممة المصدقة لما بين يديها من الرسالات ليبعث روح الإيمان في النفوس وليوقظ ضمير الإنسانية الغافل عما يراد له وما يراد به؛ جاء ليعدل خط التاريخ ويغير مجرى الحياة في العالم الإنساني.
"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا"
لقد كان النبي ﷺ منهجاً ونبراساً لكل طالب للكمال البشري "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً "
لقد أحسن القائل : ( إن المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبداً أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة).
إننا حينما نتكلم عن السيرة النبوية الشريفة إنما نتكلم في الحقيقة عن الرسالة الخاتمة والرسول الخاتم ﷺ، إنما نتكلم عن لبنة التمام ومسك الختام في بناء الرسل والرسالات الشامخ.
"مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين".
ما أجمل قول المباركفوري في توصيف سيرة الحبيب المصطفى ﷺ بقوله (إن السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة السلام هي في الحقيقة عبارة عن الرسالة التي حملها رسول الله ﷺ إلى المجتمع البشري قولاً وفعلاً وتوجيهاً وسلوكاً، وقلب موازين الحياة فبدل مكان السيئة الحسنة وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة الله).
إننا اليوم لا نعرف عن النبي (ﷺ) إلا قشوراً خفيفة لا تحرك القلوب ولا تستثير الهمم، وكلما بعد الزمن انشغل الناس عن الله تعالى وعن دينه ورسوله فقست القلوب وغزاها الران واستحكم بها الهوى والشيطان فطبع عليها والله المستعان.
إن تعظيم الناس اليوم للنبي (ﷺ) وصحابته إنما هو عن تقليد موروث ومعرفة قليلة، ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان أو بما قلت مؤنته من العمل، ومعرفة السيرة بهذا القدر التافه يساوي الجهل بها.
ثم يأتي رمضان بما فيه من نفحات إيمانية وعطايا إلهية وهبات ربانية ليعيد للقلوب بريقها.
ماذا نحتاج غير رمضان حتى نرجع إلى الله ورسوله؟!
إن رمضان منحة إلهية ومصحة إيمانية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فيه تصفد الشياطين وتفتح أبواب السماء وتغلق أبواب جهنم وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
إن في هذا الشهر الكريم المبارك من المعجزات الحسية ما غفلت عنه أنظارنا إلفاً له واعتياداً.
كيف لا نستفيد من المواسم ونوطن أنفسنا لله؟!
وكيف لا نعيش مع النبي (ﷺ) ووفق حياته وسبيله إيماناً ومنهجاً وسلوكاً وعملاً وتخلقاً وصلة ًوبراً؟!
ماذا نحتاج غير رمضان موسم الطاعة والبر والإحسان؟!
فيه ما ليس في غيره، بل وزد على ذلك ثلاث فرص للمغفرة والنقاء ووضع الأثقال والذنوب المقيدة والجالبة لسخط الله تعالى وعقابه العاجل قبل الآجل.
"من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"
من لم يطهره رمضان فلا طهره الله
"رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة عن النبي (ﷺ) .