أسامة داود يكتب: العدالة الغائبة فى تبرعات المستشفيات ( 3 )

أسامة داود يكتب: العدالة الغائبة فى تبرعات المستشفيات ( 3 )

مستشفيات تعالج سرطان  الغلابة وأخرى تمارس  الدعاية أكثر مما تمارس الطب

بعضها يمارس خداع المواطن ويوجه تبرعاته لبنود أخرى غير العلاج

لماذا ترفض المستشفيات التى تستخدم الدعاية لجمع التبرعات نشر ميزانياتها؟

شروط قبول الحالات ببعض المستشفيات أصعب من شروط كلية الشرطة

هل يعقل وجود بودى جاردات على أبواب مستشفيات تزعم أنها خيرية؟

هذه حكاية "ملجأ الغلابة من مصابى السرطان" لا يمارس دعاية ولا بودى جاردات 

ميزانية مستشفيات الغلابة تقل عن دخل أى كيان عشوائى محترف التضليل عبر آلة الدعاية 


باتت استعادة العدالة الغائبة فى توزيع تبرعات المستشفيات مطلبًا حيويًا، وصار تشكيل مجلس شعبى لتلقى التبرعات والصدقات أمرًا ضروريًا على أن يتولى هذا المجلس توزيعها على المستشفيات حسب أدائها وليس حسب حملات الدعاية التى تمارس خداع المواطن.

ما يحدث الآن فى ملف التبرعات أشبه بعملية سلب مشاعر المواطن والسيطرة على عقله وقلبه عبر ألاعيب ومخططات مدروسة وممنهجة بهدف جمع أموال يتم توجيه معظمها إلى أى شىء إلا العلاج.

إننى أدعو الأجهزة الرقابية لإخضاع جميع الجهات التى تزعم تقديم العلاج المجانى إلى رقابتها وإلزامها بالإعلان عن ميزانياتها متضمنة الموارد والنفقات وأعداد المقبولين عندها. 

فمن الصعب أن يستوعب البعض أن العمل فى صمت ما هو إلا قمة التألق وحسن الأداء، بينما الحملات الإعلانية الصاخبة ما هى إلا تعبير عن جريمة لسلب عقل وقلب ومشاعر المواطن، ليقدم كل ما يملك من صدقات أو زكاة إلى جهات تتاجر بآلام الناس لتحصد الكثير ولا تقدم إلا أقل القليل.

عن عشوائيات الصحة التى ترتدى ثياب المستشفيات الخيرية أتحدث.. وفى المقابل أسرد بالأرقام تجربة أحد مراكز الأورام التى تم تأسيسها وإنشاؤها لعلاج المصريين دون استثناء.

أتحدث اليوم عن مركز أورام معهد ناصر تلك القيمة التى تفتح ذراعيها لفقراء الوطن، عن ملجأ مصابى السرطان الذى يقبع فى حضن معهد ناصر الشامخ على نيل مصر فى منطقة شبرا وعلى نفس الرافد والطريق الذى يتربع عليه المعهد القومى للأورام، كلاهما ملجأ الغلابة من مصابى السرطان، كلاهما يستقبل الأطفال دون تفرقة، فكفاهم ما يعانون من مرض لم يكن خيارًا لهم.

وفى هذا الصدد أسرد قصة ضمن مئات القصص التى كنت شاهدًا عليها.. تلقيت اتصالاً من أب أصيب ابنه بالسرطان فذهب به إلى المستشفى الذى تعود الجميع على التبرع له تحت وقع آلة الدعاية التى نجحت على مدار تاريخه القصير فى اختراق كل الحجب والوصول إلى الناس وعبر كل وسائل البث المباشر ولم تسلم منها حتى إذاعة القرآن الكريم.

لجأ الأب إلى المستشفى قبل سطوع فجر أحد الأيام ليكون فى مقدمة الوافدين بعدما امتص هذا المستشفى من رزق أولاده الكثير عبر تبرعات متنوعة مرة عبر مكالمة محمول ومرة عبر دفع مباشر فى حسابه الموحد والمتراقص بأرقامه الخمسة فى كل بنوك مصر.

والأكثر تعجبًا أن الأب كان قد وقّع على إقرار فى المصلحة التى يعمل بها باقتطاع جزء من راتبه الشهرى لمصلحة هذا المستشفى تحت تأثير الدعاية التى خيلت له أنه المستشفى الوحيد الذى يعالج أطفال السرطان وبالتالى وجد أن التبرع الدائم سوف يحقق نوعًا من التأمين لأبنائه إن أصاب أحدهم المرض الخبيث.

صعق الأب عندما تم توجيهه إلى مدخل طويل ليدخل عيادة خارجية للمستشفى ويتسلم ورقة بيضاء لا تفيد بشيء إلا أنك عليك الانتظار حتى يأتى دورك ولكن ليس قبل أسابيع وربما تصل إلى شهور.

خرج الأب ليفاجأ بتليفون من نفس المستشفى يحذره أن ابنه حالته خطيرة وبالتالى عليه أن يلحق بأى مستشفى مثل المعهد القومى للأورام أو مركز أورام معهد ناصر وبسرعة لأن حالته سيئة للغاية وأن حالة اللوكيميا متقدمة عنده.

صعق الرجل وقال لماذا لا يدخل لديكم؟ رد ممثل المستشفى لا يوجد مكان ولن يتوافر ولو بعد شهور.. تحرك الرجل فى حالة هلع مهرولا والمرارة تملأ حلقه والحسرة تسكن قلبه إلى أقرب مكان له وكان معهد ناصر ليدخل إلى الطوارئ ليحيله إلى مركز الأورام ويتم حجز الطفل لسوء حالته. 

تعامل القائمون على مركز أورام ناصر مع الطفل كإنسان ليهدأ روع الأب وتهدأ نفسه أمام باب مستشفى لم يطرقه يومًا متبرعًا.

وما حدث مع هذا المواطن المسكين يتكرر يوميًا مع مئات المواطنين الذين يوجهون تبرعاتهم إلى هذا المستشفى الذى يمارس الدعاية أكثر مما يمارس الطب والعلاج، بينما لا يستقبلهم سوى مستشفى آخر لا يصل إليه من تبرعاتهم شيء.

لا أحد يهتم بالتبرع لمركز أورام معهد ناصر الذى أتابع ما يجرى فيه بحكم علاقتى بقطاع الصحة على مدار أكثر من ربع قرن من الزمان وهو ضمن سلسلة مراكز تتبع وزارة الصحة تعالج الأورام للكبار وللأطفال دون أن تنتقيهم ودون أن تنتظر تبرعات.

لقد وجه المواطن البسيط جزءًا من دخله الشهرى لمستشفى لا ليعالج ابنه بل ليسدد فواتير مهرجانات الإعلانات والدعاية وأجور الفنانين والكومبارس وضاربى الدفوف ومخططى الحملات الإعلانية التى يتم استئجارها بالدقيقة والثانية داخل برامج حوارية ومسلسلات وأفلام لضمان الاستئثار بضمائر وألسنة القائمين عليها.

أردت أن أسرد تلك القصة ولدىّ عشرات بل مئات القصص لكونها نموذجًا يتكرر مع كل الأطفال الذين يعانون إصابات سرطانية تتطلب التدخل الفورى لإنقاذ حياتهم وبالتالى يحتاج علاجهم إلى تكاليف مرتفعة وتلك الحالات يتم التخلص منها بتوجيهها إلى المعهد القومى للأورام أو مركز أورام معهد ناصر.

وكنت أتمنى من المواطن المصرى أن يلتفت إلى تلك المستشفيات التى تفتح ذراعيها رغم ضخامة ما تحمله من التزامات وتكاليف علاج ورغم محدودية ميزانياتها.. وإن كنت قد بدأت بسرد قصة من مئات القصص فعلينا أن ننظر إلى ما يقدمه معهد ناصر متضمنًا مركز الأورام التابع له وعبر ميزانيته الضئيلة التى تقل عن دخل أى كيان عشوائى محترف التضليل عبر آلة الدعاية الصاخبة ورقصات الممثلين والمطربين.

أضع أمام أعين كل مواطن مصرى الحقيقة والدور الذى يؤديه مستشفى مثل معهد ناصر وبالأرقام التى كنت أحرَص الناس على الوصول إليها لتكون أمام الجميع ومن خلال تلك الأرقام التى لا تكذب أتحدى العشوائيات التى ترتدى ثياب المستشفيات وتنطبق عليها الحكمة القائلة أسمع ضجيجًا ولا أرى طحينًا حيث تملأ الدنيا بضجيج الإعلانات المدفوعة.

إن عيادات معهد ناصر ومنها مركز الأورام التابع له تسير فى نفس اتجاه المعهد القومى للأورام باستقبال الفقراء بأعداد ضخمة حيث يصل ما يتردد على مركز أورام معهد ناصر 140 ألف حالة على العيادات الخارجية وأكثر من 14 ألف جلسة إشعاع و32 ألف جرعة كيماوى، وعشرات الآلاف من أشعة الرنين والمسح الذرى.

ومركز أورام معهد ناصر يقع ضمن منظومة معهد ناصر الذى يستقبل 400 ألف حالة سنويًا وتتعامل طوارئ المعهد مع 43 ألف حالة سنويًا، ومن المعروف أن حالات الطوارئ تكون ما بين إصابات وحوادث تتطلب التدخل السريع ونتيجة التزايد قد يفترش المرضى كل مكان فى عيادات الطوارئ وترى الأطباء والتمريض يتعاملون معها على وجه السرعة وفى ظروف غاية فى القسوة نتيجة لعدم توافر الموارد المالية الكافية لاستيعاب كل تلك الأعداد. 

ويعالج بالأقسام الداخلية 53 ألف حالة ويجرى 21 ألف عملية جراحية وأكثر من مليون و100 ألف تحليل معملى و10 آلاف تحليل باثولوجى بخلاف ما يصل إلى 25 ألف جلسة غسيل كلوى.

 ومعهد ناصر هو مدينة طبية تتعامل بأعلى كفاءة مع الحالات المرضية فهو بيت العائلة.. معهد ناصر بالنسبة لنا ساحة مفتوحة مثله مثل المعهد القومى للأورام لا يستخدم البودى جاردات التى لم أرها إلا على أبواب المستشفيات التى تزعم أنها خيرية وعلى طريقة جاردات البارات التى تطالعنا فى أفلام السينما.

والسؤال هنا: أليست المستشفيات التى تنفتح أبوابها أمام الجميع بلا استثناء هى الأوْلى بتبرعات الفقراء والأثرياء على السواء؟