الخميس ١٩ / يونيو / ٢٠٢٥
من نحن اتصل بنا التحرير
×

أسامة داود يكتب : الشفافية المحظورة فى وزارة البترول

أسامة داود يكتب : الشفافية المحظورة فى وزارة البترول

في توقيت بالغ الحساسية، وبعد الكشف عن كواليس تعديلات غير منطقية في بعض اتفاقيات البترول لصالح شركات أجنبية، وقبل أن يمر عام على توقيع تلك الاتفاقيات، أصدرت وزارة البترول خطابًا داخليًا تم تعميمه على العاملين، يحمل عنوانًا بيروقراطيًا ناعمًا، لكنه يخفي وراء عباراته المصقولة محاولة فجة لتكميم الأفواه.

يأتي هذا الخطاب أيضاً في أعقاب تناقضات واضحة في تصريحات الوزارة بشأن ملف البنزين، وسعيها للتعتيم على الحقائق رغم تصاعد شكاوى المواطنين من أعطال مفاجئة في سياراتهم وتلف طلمبات البنزين، الأمر الذي أثار تساؤلات مشروعة حول جودة المنتج وتجاهل الوزارة للنتائج الكارثية على المستهلكين.

الخطاب يبدأ بما يبدو كتمهيد حميد: الحديث عن "حوكمة تداول المعلومات"، و"الضوابط القانونية"، و"شفافية المعلومات"، بل و"جذب الاستثمارات وتحقيق الاستقرار الاقتصادي". لكن المدهش أن هذه العبارات المثقلة بالتقنية القانونية والإدارية تنتهي بعبارة حاسمة: يُحظر الإبلاغ عن أي معلومات خاصة بقطاعي البترول والثروة المعدنية بأي وسيلة إعلامية!.

وهو ما يتعارض صراحة مع مبدأ حرية تداول المعلومات المنصوص عليه في الدستور والقانون.

إن حجب المعلومات التي لا تندرج تحت بند العروض أو المناقصات أو ما يتعلق بالأمن القومي، فيُعد تعتيمًا غير مبرر، يُمكن اعتباره محاولة للتستر على تلاعب يجري لصالح شركاء أجانب، أو على صفقات تهدف إلى إسناد الحقول الواعدة التابعة للشركة العامة للبترول إلى رجال أعمال ومستثمرين، لاقتناص خيراتها وحرمان قطاع البترول منها.

كما تُعد المعلومات المتعلقة بالاتفاقيات أو التعاقدات التي يُجرى تعديلها لصالح الشركات الأجنبية بمثابة تنازل عن حقوق الدولة المصرية، وذلك عبر قبول بعض قيادات وزارة البترول تعديل اتفاقيات لم يمضِ على توقيعها أكثر من عام .

إنَّ الكشف عن هذه المعلومات يُعتبر مهمة وطنية تستوجب التحرك الجاد لحماية مصالح البلاد."  

الشفافية والحظر !

إنه تناقض لا يخفىَ على أحد. كيف يمكن أن تتحدث الوزارة عن الشفافية ثم تختتم خطابها بحظر كامل على تداول المعلومات؟ هل الشفافية تعني فقط ما تقرره هي، بينما يُمنع الآخرون من الحديث أو حتى التوضيح؟

الأكثر إثارة للقلق أن الخطاب لا يحدد ما هي المعلومات التي يُحظر تداولها، ولا يفرق بين المعلومات العامة، وبين تلك التي قد تمس الأمن القومي أو المصالح السيادية. إنه حظر مطلق، مفتوح على التأويل، ويتحول تلقائيًا إلى أداة تهديد ضمني لكل من تسول له نفسه "الحديث" خارج الجدران.


منشور داخل الشركات بناء على تعليمات الوزارة

لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الصيغة؟

الواقع أن السياق لا يمكن فصله عن ما نُشر مؤخرًا حول تعديلات كانت تجرى على اتفاقيات التزام بترولية كبرى، أبرزها اتفاقية إكسون موبيل فى حقلى مصرى والقاهرة البحريين، والتي تصب تفاصيلها في مصلحة الشركة الأمريكية، وحرمان الدولة من حقوق سيادية واضحة في الإنتاج والعائد. وهذه الاتفاقية تحديدًا لم تجرؤ الشركة على  طلب تعديلها إلا بعد أيام من تولي وزير البترول الحالي، القادم من إحدى الشركات الأجنبية وتحديدا شلمبرجير الامريكية، منصبه. وقد ظل في هذه الشركة لأكثر من 22 عامًا، قضى آخر عامين منها في الولايات المتحدة، حيث يقع المقر الرئيسي لها كما يوجد المقر الرئيسى لإكسون موبيل نفسها!

وكان لى شرف كشف هذا الإجراء المخالف للقانون وطبيعة الاتفاقية حيث لم يسبق فى تاريخ الاتفاقيات فى العالم أن تم بدء إجراءات تعديل على اتفاقية لم يمر على صدور قانون بها أكثر من 10 أشهر.

وفي الوقت الذي كان يُنتظر فيه من الوزارة أن ترد بالأرقام والتفاصيل والوثائق لدحض ما أُثير، فضّلت أن تختار المسار الأسهل: الصمت والتخويف

فبدلاً من كشف الحقائق للرأي العام، وبناء ثقة جديدة تقوم على المكاشفة، جاء هذا الخطاب ليؤسس لمرحلة من "الشفافية المحظورة"، حيث يقتصر الحق في المعرفة على السلطة وحدها، بينما يُطلب من الجميع الالتزام بـ"السكوت المؤسسي".

لكن هذا النهج لم يعد قابلًا للحياة. فالعالم يتغير، والإعلام الاستقصائي يتقدم، والوعي العام يرتفع. وحجب المعلومات أو تحذير الموظفين من الإدلاء بأي تصريح، لن يمنع الحقيقة من أن تجد طريقها للخروج.

ما يجب أن تعيه وزارة البترول، وكل من يقف خلف هذا الخطاب، هو أن الثقة لا تُبنى بالحظر، بل بالشراكة في المعرفة. وأن مواجهة التساؤلات حول الاتفاقيات والتعديلات وحقوق الدولة، لا تكون بإغلاق الأفواه، بل بفتح الملفات، ومصارحة الناس بالحقائق، والإجابة بشجاعة: لماذا؟ ولصالح من؟

أما الاكتفاء بالخطابات السرية والتحذيرات المبطنة، فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الشكوك، ومزيد من فقدان الثقة، ليس فقط في الوزارة، بل في كامل منظومة اتخاذ القرار.

إصلاح مطلوب .. وتكميم مرفوض

في ضوء ما سبق، فإن الطريق نحو إصلاح حقيقي في قطاع البترول والثروة المعدنية لا يبدأ بالحظر والمنع، بل من خلال:

اولاً. إقرار مبدأ الحق في المعرفة كركيزة للإدارة الرشيدة، وتحديث لوائح تداول المعلومات داخل الوزارة لتفرّق بين المعلومات الحساسة التي تمس الأمن القومي، وتلك التي تهم الشأن العام وتُعنى بحقوق الدولة الاقتصادية، وليس لحماية الوزير وتأمينه تجاه الكشف عن قبول شروط تخل بمصالح قطاع البترول.

ثانياً. مراجعة نتائج بوابة المعلومات الرسمية لوزارة البترول، والتى يفترض أنها مصدرًا مفتوحًا وشفافًا للبيانات والإحصاءات، على غرار ما تفعله وزارات الطاقة في الدول المتقدمة وشركات البترول الوطنية حول العالم وما الذى حققته لصالح وزارة البترول.

ثالثاً. إلزام قيادات الوزارة بإجراء مؤتمرات دورية لشرح الاتفاقيات والتعديلات الجارية، وطرحها أمام المتخصصين والرأي العام للنقاش والتحليل، قبل اعتمادها رسميًا.

رابعاً. فتح ملفات القيادات التنفيذية المعنية بملف الاتفاقيات، ومراجعة مسار ترقياتهم ومواقفهم التفاوضية مع الشركات الأجنبية، بما يضمن تجنب تضارب المصالح، وتغليب المصلحة الوطنية على حساب المصالح الخاصة.

خامساً. تعزيز دور الجهات الرقابية في مراجعة الاتفاقيات البترولية قبل توقيعها أو تعديلها، خاصة في الحالات التي يُحتمل أن تؤدي إلى فقدان الدولة لنسبة من العوائد أو السيطرة على الثروات الطبيعية

اللهم قد بلغت اللهم فاشهد 

.