أسامة داود يفتح خزائن المالكي... خبير الورق الذي أنقذ الاهلية وحذر من إنهيار راكتا

أسامة داود يفتح خزائن المالكي... خبير الورق الذي أنقذ الاهلية وحذر من إنهيار راكتا

 لا تزال الشركة الأهلية للورق إسم يقف كشاهد على زمن كانت فيه مصر تصنع وتصدر وتربي رجالًا. من خلف هذا الشاهد يبرز اسم واحد تصعب كتابته في سطر واحد: المهندس محمود برهام المالكي، رجل اختار طريقًا صعبًا ليمنح وطنه ما لا تصنعه القرارات: الخبرة، والصدق، والإرادة.


من المنصورة إلى الورش: بطل لم تروه المناهج

وُلد المالكي في أكتوبر 1936 بمحافظة الدقهلية، ودرس العلوم بجامعة الإسكندرية، حيث تخرج منها عام 1957. رُشّح للتدريس الجامعي في مصر والسودان، لكنه فضّل خط الإنتاج على المنصة الأكاديمية. بدأ من مصانع الكيماويات، ثم انتقل إلى "مصر لصناعة الكيماويات"، وتدرج في المواقع والمناصب حتى وصل إلى مدير عام الإنتاج لمصانع الكربونات ورئيس قطاع المصانع، كما كان عضوًا بمجلس إدارة الشركة، ومنها إلى مهمته الكبرى: قيادة "الأهلية للورق".

المالكى وإنقاذ الأهلية

حين دخل المالكي شركة الأهلية في نوفمبر من عام 1987، كانت الشركة تترنح تحت ثقل المديونيات، وتوقف الإنتاج، وهروب الكفاءات، وتآكل الماكينات. لكنه لم يتعامل معها كمنجم خاسر، بل ككائن مريض يمكن علاجه، وكانت لديه خطة دقيقة للإنقاذ شملت عدة محاور هى ..

تحديث الوحدات الإنتاجية: حيث أعاد تشغيل ماكينات إنتاج الورق التي كانت شبه معطلة، دون استيراد جديد أو انتظار ميزانيات إضافية.

خفض الاعتماد على المستورد باستبداله بالخامات المحلية: فقام باستخدام قش الأرز ومصاصة القصب كخامات رئيسية بدلًا من لب الخشب المستورد، ما أدى إلى خفض نسبة المكونات المستوردة من 68% إلى 40%.

تنويع المنتجات: أدخل أكثر من 20 نوعًا جديدًا من الورق إلى السوق، منها ورق الطباعة، والكرافت، وورق تغليف المعادن.

مكافحة الإغراق: واجه بحسم مافيا الورق المستورد، ودافع عن المنتج المحلي في معارك السوق، وساهم في ضبط الأسعار وضمان استمرارية الإنتاج.

بناء الكوادر: حرص على تدريب العاملين ورفع مستواهم الفني، وكان أول من رسّخ مفهوم "مدرسة الورشة" التي تخرج فيها عشرات الفنيين والمهندسين، وعمل على تحقيق العدالة الإدارية، مما أدى إلى رفع الروح المعنوية للعاملين وترسيخ مبدأ العمل الجماعي.

حقق بذلك نتائج مبهرة، أهمها إحداث وفر كبير من العملة الصعبة ودعم الاقتصاد المصري. واكتسبت المنتجات المحلية في ذلك الحين ثقة عالية بأسواق التصنيع المحلية والعالمية، بل وتعدى ذلك إلى مرحلة التصدير لدول مثل المملكة العربية السعودية، كما بدأت مصر في تصدير ورق الكرافت والمانيلّا إلى السودان وأثيوبيا. وبدأت الشركة في جذب أنظار العديد من المساهمين بعد تخلصها من حالة الخسارة الدائمة.


المالكى كتب محذراً من انهيار صناع الورق 

راكتا قصة النجاح انتهت بمأساة

في عام 1996، كانت هناك حاجة ماسة لنقل تجربة النجاح تلك إلى صرح آخر من صروح الصناعة المصرية، وهي الشركة العامة للورق - راكتا، فتم اختياره من جانب المسؤولين بقطاع الأعمال العام رئيسًا لمجلس الإدارة وعضوًا منتدبًا بها، وبالفعل تكررت الإنجازات بنفس مقدار النجاح الذي تحقق بالشركة الأهلية. كما كان عضوًا بمجلس إدارة شركة الشرق الأوسط للورق – سيمو.

أعاد تأهيل الماكينات، وضبط النفقات، ودرّب العنصر البشري. أعاد تشغيل المصانع، وحقق أرباحًا، وترك الشركة وهي الأولى في صناعة الورق.

لكنه لم يكن يصمت أمام أي خلل، فقاوم عبر كتاباته في العديد من الصحف الإغراق والإهمال.

خلال سنوات عمله الطويلة، قام برهام المالكي بتمثيل قطاع الصناعة المصري في عدد لا حصر له من المؤتمرات والمحافل الدولية، كما اشترك في مفاوضات عديدة بشأن اتفاقيات تعاون دولية لتطوير القطاع، وتبادل الخبرات، ودعم الاقتصاد المصري والعربي مع العديد من دول العالم.

وبعد وصوله إلى مرحلة التقاعد في نهاية عام 1999، قَبِل العمل رئيسًا لمصانع إيماك للورق التابعة لمجموعة الخرافي السعودية، بعد فترة طويلة من العزوف عن عروض متكررة للعمل بشركات أجنبية وترك مجال العمل بشركات قطاع الأعمال الوطني.


مدرسة بلا تلاميذ.. وسؤال بلا إجابة

ما زال عمال "الأهلية" يحتفظون بصوره وهو يحمل مفكًا بيد ودفتر ملاحظات باليد الأخرى. لم يكن الرجل يُلقّن، بل يُشارك. لم يعرف الكراسي الدوّارة، بل أرض الورشة.

وبرغم تقاعده في 1999، ووفاته في 17 أبريل 2014، فإن سيرته تتردد كلما ذُكرت كلمة صناعة الورق. 

ويزخر مجال الصناعة بتلامذة ومحبّي برهام المالكي، الذين دومًا يذكرون توصاياه لهم بتقديس العمل، وتحري العدل بين الزملاء، وعدم الكفّ عن تعلّم الجديد مهما طالت بهم الخبرة وتدرجت بهم المناصب.

لكن ما حدث لاحقًا كان صادمًا. في 2024، وبعد سنوات من التدهور والإهمال الإداري، تقرر تصفية راكتا، لتُطوى صفحة من تاريخ الصناعة الوطنية للورق بقرار لم يُراعِ لا خبرة الرجال، ولا قيمة المصنع، ولا مستقبل صناعة الورق في مصر.

صناعة تُهدر... وسيرة تُلهم

في بلد يستورد الورق، ويغلق مصانع الورق، ويُهمّش أصحاب التجارب، قد تبدو قصة المالكي أشبه بالحلم. لكنها واقعة حدثت، وخطة وُضعت، ونتائج حُققت.

فهل يكون في استدعاء هذه السيرة درسٌ يُعيد الاعتبار للصناعة الوطنية؟ وهل آن الأوان لإعادة فتح ملفات تصفية المصانع، لا كأرقام على ورق، بل كجرح في ضمير الدولة؟

الورق في مصر لم يعُد يُصنع كما كان. لكنّ صنّاع الورق، من طينة محمود المالكي، هم من نحتاج إليهم الآن... في الورش، وفي الوزارات، وفي لجان القرارات المصيرية.


رحم الله برهام المالكى وجعل ما قدمه لمصر فى ميزان حسناته