أسامة داود يكتب : دائرة البترول المفرغة .. نستدين اليوم ونفكر غداً

أسامة داود يكتب : دائرة  البترول المفرغة .. نستدين اليوم ونفكر غداً

>> غياب المحاسبة.. من يراقب قرارات الوزير بعد مغادرته؟

>> بدون تنفيذ هذه المطالب سيظل الحديث عن "الإنجازات" مجرد عناوين بلا مضمون

>> الاستدانة لسداد الاستيراد: نموذج اقتصادي هش

>> مليار دولار للشركاء الأجانب.. إنجاز حقيقي أم دين جديد؟

>> روشتة الإصلاح: تطوير الحقول ومراجعة الاتفاقيات وربط القروض بالاستثمار

>> بعض الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال السنوات الأخيرة جاءت في مصلحة الشركات الأجنبية

 

كيف يمكن أن نقيم أداء قطاع البترول في مصر اليوم؟ هل نحن أمام قطاع يحقق إنتاجًا متزايدًا أو على الأقل ثابتًا ومتوازنًا، أم أننا أمام قطاع يعيش على قروض تتضخم عامًا بعد عام؟


المنطق يقول إن التقييم السليم يبدأ من مقارنة الإنتاج الفعلي بالاستهلاك، والنظر إلى العائدات مقارنة بالالتزامات. لكن ما يحدث هو العكس تمامًا: نغرق في احتفالات وأخبار عن زيادات طفيفة في إنتاج حقل هنا أو هناك، بينما هذه الزيادات لا تمثل وزنًا حقيقيًا في ميزان الاستهلاك الوطني، خاصة إذا ما قورنت بالتراجع الحاد في إنتاج حقول أخرى، وهو تراجع يصل في بعض الحالات إلى أضعاف ما تمت إضافته.


هذا التناقض بين الأرقام المعلنة والحقائق على الأرض يخلق صورة زائفة، وكأن القطاع في حالة نمو، بينما الواقع أن قدرته على تلبية الاحتياجات تتآكل، وأن الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك تُسد عبر الاستيراد والاقتراض، لا عبر زيادة حقيقية في الإنتاج.


مليار دولار للشركاء.. من أين جاءت الأموال؟


من أبرز ما روج له القطاع مؤخرًا هو الإعلان عن سداد مليار دولار للشركاء الأجانب. ورغم أن هذا الرقم يبدو في ظاهره مؤشرًا إيجابيًا، إلا أن السؤال الجوهري الذي تم تجاهله هو: من أين تم السداد؟
هل جاء المليار من عائدات حقيقية نجح القطاع في تحقيقها عبر إنتاج وبيع الغاز والبترول والمنتجات؟ أم أنه جاء من قروض جديدة أضيفت إلى كاهل الدولة؟


إذا كان السداد قد تم من قروض، فهذا يعني ببساطة أننا نستدين لسداد ديون سابقة، وهي دائرة مفرغة تبتلع أي فرصة لتحقيق استقرار مالي.


الأخطر من ذلك: هل هناك خطة محكمة وجدول زمني واضح للسداد، أم أن الأمر يُدار بأسلوب "نستدين اليوم ونفكر غدًا"؟


الديون التي يتحملها قطاع البترول ليست مجرد التزامات مالية على الورق، بل هي أعباء حقيقية ستنتقل بالكامل إلى كاهل الشعب المصري، لأنه في النهاية هو الذي يسدد من خلال الضرائب أو ارتفاع الأسعار أو تخفيض الدعم.


ومن الأمثلة البارزة على ذلك، القرض الذي حصل عليه القطاع من بنك مصر بقيمة تتجاوز 4 مليارات دولار.


وهناك حديث عن أن هيئة البترول فى مقابل القرض رهنت نسبة كبيرة من أحد معامل التكرير لدى البنك.. فهل هذا حقيقى؟ 


وهنا نتسائل هل تم توجيه المليارات الاربعة لسداد ثمن الغاز المستورد من إسرائيل؟  إن كان هذا ما حدث فهو أمر يدعو للخجل وليس لتباهى مسؤولو القطاع بالقدرة على السداد، دون أن يذكروا أن ما يسددونه اليوم سيعود غدًا في صورة دين جديد بفوائد إضافية.


الديون تتزايد  رغم السداد


الحقائق تكشف أن مديونية قطاع البترول ارتفعت إلى نحو 5 مليارات دولار بخلاف قرض الأربعة مليارات من بنك مصر، رغم كل التصريحات التي تتحدث عن السداد وتقليص الالتزامات. البعض يرجع السبب إلى أن بعض الاتفاقيات التي تم توقيعها خلال السنوات الأخيرة جاءت في مصلحة الشركات الأجنبية، على حساب المصلحة الوطنية، ما خلق التزامات إضافية بدل تخفيف الأعباء.


هذه السياسة تجعل من أي إنجاز مالي مجرد إنجاز مؤقت، لأن ما يتم سداده اليوم يُعاد تحميله مرة أخرى في صورة التزامات جديدة، والنتيجة النهائية: تراكم الديون بدل خفضها.


غياب المحاسبة

من أخطر ما يواجه القطاع هو غياب آليات المحاسبة الحقيقية. فالوزير أو القيادي الذي يبرم اتفاقيات أو يوقع على قروض ضخمة، لا يتحمل تبعات قراراته بعد مغادرته المنصب او حتى إذا استمر فى منصبه، بينما تبقى الأعباء على الشعب.


المنطق يفرض أن تكون هناك محاسبة صارمة، لا على الأرقام المعلنة في المؤتمرات الصحفية، بل على النتائج الفعلية في الميدان، وعلى أثر القرارات على المديين المتوسط والطويل.


الاعتماد على القروض لسداد التزامات الاستيراد يمثل نموذجًا بالغ الخطورة، لأنه يضعف القدرة على تمويل الاستثمارات الإنتاجية. عندما يتم توجيه مليارات الدولارات لشراء الغاز من الخارج - سواء من إسرائيل أو عبر الغاز المسال - فهذا يعني أننا نمول الاستهلاك لا الإنتاج، ونبني اقتصادًا هشًا يعتمد على الخارج في تأمين احتياجاته الأساسية من الطاقة.


أمام هذا المشهد العبثى، يبقى السؤال الحتمي: كيف يمكن لقطاع البترول أن يحقق استقرارًا حقيقيًا إذا كان يعتمد على الاقتراض لسداد التزاماته، ويتجاهل التراجع في إنتاج الحقول، ويحتفل بزيادات لا تذكر في الإنتاج؟


الإجابة لن تأتي عبر بيانات دعائية أو مؤتمرات استعراضية، بل عبر خطة واضحة تقوم على الآتى:


*وقف النزيف في الإنتاج المحلي عبر برامج تطوير حقيقية للحقول المتراجعة.


*مراجعة جميع الاتفاقيات التي تخلق التزامات مستقبلية مجحفة.


 *الحد من الاعتماد على القروض، وربط أي اقتراض بخطط استثمارية تحقق عائدًا مباشرًا.


*تطبيق مبدأ المحاسبة على جميع القرارات التي تترتب عليها ديون طويلة الأجل


إلى أن يتحقق ذلك، سيظل القطاع يسدد من جيب الشعب، لا من جيبه، وسيظل الحديث عن "الإنجازات" مجرد عناوين بلا مضمون، تستهلك الوقت وتخفي الحقائق.