ليلة التحولات .. يحق لنا أن نسميها كذلك بعدما أعلن حمدوك رئيس وزراء السودان أن أثيوبيا وافقت على عدم البدء في ملء السد دون اتفاق والعودة إلى طاولة المفاوضات بناء على تدخل الاتحاد الأفريقي.
وأيضا بعدما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنها طلبت من حكومة الوفاق الليبية العودة للتفاوض حول حل الميليشيات وترحيل المقاتلين الأجانب وضرورة توقف الأعمال القتالية عند الخطوط الحالية.
وإذا كان الموقف الأثيوبي يبدو منطقيا بعد أن بدأت مصر في تدويل قضية سد النهضة وتدخل الاتحاد الأفريقي الذي يمتلك تأثيرا أدبيا كبيرا ولاسيما تجاه أثيوبيا التي تعتبر المقر الرئيسي للعديد من هيئاته.
ولا جدال في أن عدم تلويح القاهرة باستخدام القوة كان محل تقدير كبير داخل أروقة الاتحاد وحافزا لبذل الجهد لحمل أثيوبيا على اتخاذ خطوات منفردة.
ونأتي لموقف واشنطون
نذكر بأننا قلنا من قبل أن أردوغان يتحرك في ليبيا بإيعاز من واتفاق مع بريطانيا وبتفهم من أمريكا.
ويبدو أننا إزاء تباين بين الرؤيتين البريطانية والأمريكية مبعثه ارتباك التحالفات وتعارض المصالح داخل حلف الناتو.
وجهة نظر بريطانيا مهندسة اتفاق الصخيرات والتي أتت بالسراج من مخازن MI6 هي إدامة الخلافات بإعادة الإخوان المسلمين وأشباههم للساحة الليبية بعد إخفاقهم في الانتخابات البرلمانية.
وتلك الخلافات من وجهة نظر بريطانيا سيؤدي إلى تفكيك الدولة الليبية إلى الوضع السابق على توحيد السنوسي للأقاليم الثلاثة:برقة وفزان وطرابلس.
وتلك الدويلات الصغيرة وبحكم الصراعات التي لن تنقطع فيما بينها ستلقي قيادها للكبار الذين يشترون النفط دون أمل في طموحات تتجاوز "العيش" على ريع أو بالأدق البقية الباقية من ريع النفط والغاز والمناجم
تعرضت الخطة البريطانية لعطب غير متوقع بسبب تخلص الشرق الليبي بسرعة من الميليشيات الإرهابية وتوجه الجيش الوطني لإخضاع طرابلس بعد وصول المفاوضات والوساطات لطريق مسدود وعندها لجأت بريطانيا لتركيا التي كانت تتحرق شوقا لأن تضع موطئ قدم في شرق المتوسط من أجل إنقاذ طرابلس وإعادة الجيش الليبي اولا نحو الشرق وثانيا افتكاك موانئ الهلال النفطي من سيطرته لحرمانه من الموارد المالية.
ولكن طموحات أردوغان العثمانية والنفطية معا دفعت الأمور في اتجاه أثار حفيظة فرنسا وقلق مصر وغضب روسيا.
وإلى أسابيع قليلة مضت كانت الولايات المتحدة الأمريكية قانعة بالتفسيرات البريطانية التي ترى في ذلك التحول خطوة إيجابية لحصار النفوذ الروسي في ليبيا وركزت تركيا والوفاق على التصريح في كل وقت بوجود مرتزقة فاجنر من روسيا حول طرابلس ووجود خبراء روس وامدادات عسكرية متقدمة تترى على بنغازي.
حدث ارتباك كبير بتصادم السفن التركية الحربية مع السفن الفرنسية واليونانية التي تعمل في مراقبة السواحل الليبية في إطار عملية إيريني وفسرت باريس هذا الاجتراء على أنه يأتي باتفاق مع بريطانيا وبدأت في مخاطبة واشنطون والتلويح بأن الناتو قد مات سريريا.
ليلة التحولات
لجأت فرنسا للتفاهم مع روسيا ومع مصر وهو ما أثار قلقا عميقا لدى الولايات المتحدة الأمريكية وهي ترى أن الخطة البريطانية العتيد قد تدخل في نفق تصعيد عسكري غير مأمون العواقب نظرا للقوة الجوية الكبيرة التي يمتلكها محور فرنسا روسيا مصر ووجود الجيش المصري على الأرض بخطوط إمداد قصيرة ومؤمنة بينما لا يتمتع أردوغان والوفاق بميزات نسبية في هذا النطاق بل أن خطوط إمداداته البحرية ستكون في خطر داهم في حال نشوب القتال.
بأسلوب برجماتي توصلت واشنطون إلى خيار جديد ألا وهو تهدئة ثائرة فرنسا لمنعها من الارتماء في حضن التحالف مع روسيا وطمئنة مصر لتخفيض درجة الاستعداد العسكري والعودة للعب دور نشط بين بنغازي وطرابلس طالما أن الطرفين يسلمان بالمصالح الأمريكية في ليبيا ويلتزمان بعدم عودة نظام معمر القذافي
يبدو أن التصور الأمريكي يعتمد على إخراج الميليشيات السورية وضبط التشكيلات العسكرية باستبعاد الميليشيات التي تسبب اضطرابا أمنيا يهدد إمدادات النفط على أن يتزامن ذلك مع إخراج روسيا من الصورة وبدء عملية سياسية داخل العباءة الأمريكية.
لكن لا يعني ذلك أن لندن وأنقرة سيسلمان بذلك خاصة مع ضغوط المسلحين في طرابلس وهم يرون أنفسهم طرفا غير مرغوب فيه ورغبة أردوغان في الخروج بمكاسب في غاز شرق المتوسط.
هناك محاولات لتركيا والوفاق لنقل أهداف العمليات العسكرية باتجاه سبها في الجنوب حيث آبار النفط ولكن ذلك يعرضها لغضبة فرنسية مباشرة لمتاخمة المنطقة لتشاد والنيجر وهي مناطق نفوذ فرنسية فضلا عن أن المساحة المكشوفة ستجعل قوات الوفاق والميليشات السورية هدفا سهلا لقصف الطائرات.
وما لم تحدث أمور غير اعتيادية يمكن القول بأن خطر نشوب قتال واسع عند الخط الأحمر (سرت-الجفرة) صار أقل من أي وقت سبق اللهم إلا إذا قرر التركي أن يغامر بشن عملية عسكرية يظنها سريعة خاطفة وحاسمة وعندها ستختلف الحسابات وسنكون إزاء أوضاع دولية وإقليمية جديدة
الكاتب أستاذ بكلية الأثار جامعة القاهرة