أسامة داود يكتب : ايثيدكو والتاريخ المنسى لأحد صروح البتروكيماويات في مصر

أسامة داود

إيثيدكو: شمعة تضيء سماء الإسكندرية بجهد قيادات جعلوها في طى النسيان
  أثناء تفقد موقع الشركة المصرية لإنتاج الإيثلين "ايثيدكو " مؤخرا برفقة  وزير البترول المهندس طارق الملا . كانت حركة الإنتاج بهذا الكيان العملاق تكشف عن نجاح تحقق فى ظروف غاية فى الصعوبة .
تذكرت الماضى واسترجعت جولاتى بالموقع عندما كان أرضا فضاء تملؤها النفايات، وهى المنطقة الملاصقة لمشروع سيدى كرير المتخصص أيضا فى إنتاج الإيثلين .
تذكرت على الفور ميلاد فكرة هذا الكيان، والمناقشات التى كانت تدور فى القابضة للبتروكيماويات فى عام 2009 .
 كان التوجه الأول لدى القابضة للبتروكيماويات ووزارة البترول هو إنشاء توسعات بشركة سيدى كرير،  لكن ارتأت االسلطة المختصة أن يكون هناك مشروع مستقل ومتكامل .
تم تشكيل لجنة برئاسة المهندس أحمد حلمى الذى كان نائبا للتخطيط والمشروعات بالقابضة للبتروكيماويات والتي كان يرأس مجلس ادارتها المهندس هاني سليمان فى ذلك الوقت، وتضم متخصصين من القابضة للبتروكيماويات وسيدى كرير وجاسكو لدراسة المشروع .
وتم طرح المشروع وتلقى العروض الخاصة بالمرافق والتي تم اسنادها الي شركتي انبي وبتروجيت ، كما تم طرح مناقصة وحدة إنتاج الإيثيلين علي عدة شركات عالمية متخصصة واستلام العروض وتقيمها بواسطة اللجان المشكلة لهذا الغرض .
واستمرت الإجراءات، وفى ظل حالة من الحراك الثورى التى كانت مصر تمر بها وانتهت بقيام  ثورة 25 يناير، لتتأزم  الأمور، وأصبح الدخول فى تنفيذ المشروع فى ذلك الوقت دربا من الخيال
لكن الإصرار على النجاح كان قد أدى إلى وجود حالة من التحدى لكل الظروف، لأن المهندس أحمد حلمى الذى أسندت إليه المهمة بدأ يعمل مع فريق العمل دون توقف وبتركيز شديد لتنفيذ المهمة  ، بل ربما مع رغبة البعض بأن يظل المشروع فكرة مؤجلة.
 ولكن فوجئ الجميع بأن الأمر قد تخطى حدود الفكرة .. مشروع مولود حقيقى شاملا كل الملامح بداية من التمويل والتراخيص ومصادر التغذية والإنتاج حتى التسويق، وكانت المفاجأة أن يعلن أحمد حلمى عن موعد لعقد أول جمعية عمومية للشركة الوليدة  التى لم تكن قد تجاوزت سطورا وتصميمات فى ثنايا الأوراق لكنها قابلة للتنفيذ لاكتمال مقومات كل شيء بداية من التصميمات مرورا بالتنفيذ وانتهاء بالإنتاج والتسويق ، حيث تم اختيار المهندس احمد حلمي كأول رئيس مجلس ادارة وعضوا منتدبا للشركة الوليدة !.
وعُقدت الجمعية بالفعل , وكأنها عرس تحت نيران القصف، فى ساحة تدور بها معارك طاحنة !.كان ذلك فى يوم 28 مارس 2011 .
كان تدبير التمويل فى تلك الظروف دربا من الخيال, ولكن كان تجاهل واقع ما يحدث والعمل دون النظر لتلك الظروف نوعا من المغامرة التى قام بها فريق العمل، وتم التواصل مع البنوك المحلية وبالفعل تمت الموافقة على تدبير التمويل اللازم للمشروع والمقدر بمليار و250 مليون دولار، لكن مع المخاطر التى كانت تحيط بكل شيء أصرت البنوك على رفع تكلفة القرض والانتقال بالفائدة  من 3% إلى 5,5% .
لم تكن تلك أيضا المعضلة الأخيرة بالنسبة للمشروع، بل جاء تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار من 5,75الى 7 جنيهات فى ذلك الوقت ليكون هناك فارق ضخم يضاف إلى الأعباء .
 .
كانت عملية الترسية والتى تمت بعد منافسة بين 4 شركات عالمية وكانت العروض فى ذلك الوقت تتراوح ما بين 602 مليون دولار إلى 950 مليون دولار - وهو فارق كبير -  ووقع الاختيار على العرض الافضل والاقل سعرا مع الخبرة ،  وكانت صاحبته شركة تويو اليابانية فيما يخص مشروع الإيثلين،  وبعد الترسية حاولت الشركة مع المخاطر أن تتملص من التزاماتها فى التنفيذ، خاصة وأن توابع الثورة قد أدى إلى تأخير البدء فى المشروع عام تقريبا ولكن مع استمرار صلاحية العروض المقدمة من المقاولين .
وضعت الشركة شرط زيادة السعر أو الانسحاب .  ولكن مع وجود ادارة حازمة  وفى تفاوض أشبه بمعركة خاضها أحمد حلمي مع الشركة، مستخدما اللين تارة والشدة تارة أخرى، فقام بمخاطبتهم كتابيا بأنه فى حالة التراجع سوف سوف يحرك ضدها قضيا امام التحكيم الدولي .  ونتيجة للإصرار وبعد 6 شهور تم توقيع العقد والتزمت الشركة بالتنفيذ .
وطبقا لشروط المناقصة وحتي يتم نقل التكنولوجيا ، فكان من الضروري زيادة المكون المحلي في المشروع ، وكان ذلك باسناد التصميمات الهندسية لشركة "إنبي"، بينما تسند لشركة "بتروجيت" التنفيذ بداية من الأعمال المدنية وصولا إلى أفران الإيثيلين وأبراج التكسير والمستودعات الكروية، خاصة وأن بتروجيت كانت صاحبة تنفيذ أجزاء كبيرة من مشروع سيدبك الذى يعتبر إيثيدكو نسخة منه.
  ووسط تحد خاضه العاملون بقيادة أحمد حلمى جرى التنفيذ  فى موقع لم يكن به حتى مجرد سور حول الأرض، ولكن تم التغلب على كل المشاكل .
لم يكن ذلك فقط ولكن حتى يصبح مشروعا نموذجيا، فقد تم إصراره على وضع بنية تحتية للمشروع هى الأولى من نوعها فى الشرق الأوسط، وهو  مشروع إعادة تدوير مياه الصرف الصناعى ليصبح الصرف صفر % . وهو ما جعل الشركة تفوز مؤخراً بجائزة دولية كأفضل مشروع فى إعادة تدوير المياه والحفاظ على البيئة،  وقد منحها هذا الفوز شهرة عالمية لإنتاجها لأن المشروع  يعكس التزامها البيئى بما يحقق عائدات اقتصادية وبيئة واجتماعية  .
ولم يكن ذلك فقط بل إن ثمار تلك المجهودات، يحصدها قطاع البترول حاليا، ومنها حصول الشركة على جائزة أفضل قرض فى مؤتمر اليورومنى المنعقد فى لندن فى فبراير من عام 2013، لكون الاجراءات التي تمت لقرض بهذا الحجم ولمشروع عملاق وفي ظل ظروف استثنائية تمر بها مصر كانت الافضل علي الاطلاق .
كما تم ترسية رخصة الإيثلين على شركة " ايه  بى بى لمس " الأمريكية وهى من أكبر الشركات العالمية المتخصصة فى تكنولوجيا انتاج الإيثلين.
أيضا ومن خلال مناقصة تم ترسية رخصة "البولى إيثلين " على شركة " يونى فيتش " وهى الأولى فى العالم فى إصدار رخص  هذه الصناعة .
كما تم إضافة مشروع لإنتاج "البيوتادين" وهى منتجات ثانوية لكنها تمثل صناعة استراتيجية . وتحقق إيرادات ضخمة .
ولم يكتف  أحمد حلمى فى ذلك الوقت بتلك المشروعات التى بدأت بالإيثلين . فقام بإجراء دراسات للبحث عن تحقيق قيمة مضافة جديدة، فوجد أن مضاعفة القيمة المضافة لمنتج البيوتادين يمكن أن يتم من خلال تحويله إلى البولى بيوتادين ليضاعف عائداته  بصورة كبيرة ، ويصبح منتجا هاما واستراتيجيا ويستخدم فى صناعة إطارات السيارات والسيور وغيرها وكانت تكلفة مشروع البولى بيوتادين تصل إلى 105 ملايين دولار وكان قد تم تدبيرها بالفعل .
كان قرار إنشاء مشروع البولى بيوتادين من أهم الأفكار الخلاقة خاصة وأنه يستطيع تحويل الكميات المقدر إنتاجها من البيوتادين وهى 20 ألف طن سنويا إلى 36 ألف طن من البولى بيوتادين من خلال إضافات أخرى .
ويقول الخبراء إن البيوتادين يمثل مصدرا لخامات وسيطة تؤسس لقاعدة من الصناعات الصغيرة التى تحقق عائدات ضخمة . وتخلق فرص عمل كثيرة .
ولكن بعد نقل المهندس أحمد حلمى من شركة إيثيدكو وإسناد مهام رئاسة العمليات بالقابضة للبتروكيماويات من خلفوه العمل دون توقف وبكفاءة لا يمكن إنكارها وجهد لا يمكن تجاهله وبروح الفريق تم استكمال ايثيدكو التى تعد الآن صرحا من صروح الاقتصاد القومى .
 ولكن تم التغير فى الخطة وهو تحويل جزء من الأموال المخصصة لمشروع البيوتادين إلى مشروع إنشاء محطة لتوليد الكهرباء لصالح المشروع.
ولكن بأمانة ما تم إنجازه من مشروعات داخل نطاق شركة المصرية لإنتاج الإيثيلين ومشتقاته  يؤكد أن قطاع البترول به من الخبرات والقيادات الناجحة والتى إن تم إفساح المجال لها سوف تحقق المعجزات .
ولكل من وطئت قدمه داخل أسوار المشروع فى بدايته - وكنت واحدا منهم - ليشعر الآن بالفخر لأن الفارق هو تحويل أرض مقفرة إلى مشروع عملاق يدعم الاقتصاد القومى وينهض بالدولة ويوفر آلافا من فرص العمل . خاصة وأن القيادات التى خلفت المهندس أحمد حلمى ومنهم المهندس  عبد الرحمن زيد، ثم المهندس سعد هلال الذى يتولى الآن رئاسته قد سارت فى اتجاه استكمال البناء بصورة مضيئة .
لكن يبقى سؤال أطرحه على الشركة القابضة للبتروكيماويات ورئيسها المهندس محمد سعفان وهو: أين المهندس أحمد حلمى الذى عانى الأمرين فى وضع أسس هذا الكيان العملاق من احتفالية الافتتاح الذى قام به رئيس الجمهورية ؟ . أو حتى فى الجولة الأخيرة لوزير البترول بالشركة .
لماذا لم يقم وزير البترول بدعوته مثلما تم مع القيادات السابقة لحضور افتتاح المشروع، حتى ولو كان بالمعاش، كنوع من تكريم من تحملوا المشاق لتأسيس مثل هذا الكيان العملاق ؟
أليس من العدل أن ننسب الفضل لأهله، كما أوصانا الرسول صلى الله عليه وسلم . وحتى تتعلم الأجيال الشابة معنى الوفاء .
ليس هذا فقط ولكن كنت أتمنى دعوة المهندس سامح فهمى وزير البترول الأسبق  ومن جاءوا بعده وكل رؤساء القابضة للبتروكيماويات الذين أسسوا الفكرة وعاصر بعضهم المعاناة . التى انتهت بخروج مثل هذا المشروع العملاق إلى النور .