
أسامة داود يكتب : "ظُهْر".. غير الممكن الذي اصبح حقيقة

على بعد ١٩٠ كيلومترًا من اتجاه شمال بورسعيد وعلى أعماق تصل إلى 4100 متر تحت سطح البحرالمتوسط انطلقت شرايين عديدة أشبه بالشعيرات الدموية هى أنابيب من الآبار إلى منطقة تجميع الغازات حيث منصة الإعاشة العملاقة والتى تتوسط تقريبًا المسافة ما بين منطقة حقل ظهر، وبين الشاطئ حيث منطقة وصول الغاز المتدفق عبر 3 خطوط بأقطار تبدأ بـ14 و26 و30 بوصة تحمل يوميًا ما يصل إلى 2 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعى إلى منطقة المعالجة
عاشت طاقة نيوز لمدة ساعات علي ارض الموقع حيث المرحلة الاولي والتي تستقبل مايصل الي 2 مليار متر مكعب يوميا تنتقل بعد معالجتها الي شرايين الاقتصاد المصري ممثلة في تشغيل تربينات محطات الكهرباء و توفير احتياجات الصناعات المختلفة بالاضافة الي تحويل نسبة كبيره منه الي اسمدة وبتروكيماويات لترتفع القيمة المضافة للغاز الطبيعي .
كان اللقاء وسط الاف الكيلو مترات من الانابيب المتقاطعة والمتشابكة والمتوازية في تعرجاتها التي تحتوي علي الغاز المتدفق لنشاهد عبر شاشات مركز التحكم الرئيسي والذي يتم من خلاله تشغيل ومتابعة الحقل وادارته علي مدار الدقيقة والساعة واليوم .
نخبة من شباب المهندسين يملكون أعلي المهارات بعد اختيارهم من بين اوائل الخريجين بالجامعات المصرية وتم تأهيليهم وتدريبهم في مصر والخارج ، يقول احدهم نعمل 12 ساعة يوميا ويملؤنا الشعور بالفخر باعتبار ان ما نقوم به هو عمل قومي .
المهندس مصطفي عرفية مدير مشروع ظهر يقول اول مرة في العالم يتم تصميم وتصنيع مواسير لنقل الغاز من الحقل وحتي محطة المعالجة ولاول مرة ايضا يتم تصميم وتصنيع كابل هيدروليكي بمواصفات لتشغيل الحقل .
كمايتم إجراء الاف الاختبارات علي كل مرحلة من مراحل العمل منها إجراء 52 الف اختبار علي خطين من الخطوط للتأكد من أنهما يعملان بأعلي مستوي كفاءة .
تلك التدفقات والتى تصل حاليا الي ٢ مليار قدم مكعب تأتى بعد أقل من عام من بدء إنتاج الحقل والذى بدأ فى ديسمبر ٢٠١٧ بضخ أول بشائر الخير من الغاز بكميات ٣٥٠ مليون قدم مكعب.
فى منطقة المعالجة البرية على شاطئ بورسعيد وعلى مساحة ٣ كيلومترات مربعة تتمدد ملايين الكيلومترات من أنابيب تشبه الشعيرات الدموية المتصلة بقلب ومخ الإنسان يسرى فيها الغاز الطبيعى مثل الدماء ليمر عبر عمليات فنية معقدة يتم خلالها تنقية الغاز من الشوائب.
المياه المستخلصة يجرى معالجتها من كل الملوثات العالقة قبل إعادتها إلى البحر .
المهندس مصطفى عرفية والذى رافق العمل به منذ البداية فى فبراير عام ٢٠١٦ يقول إن المشروع يتم تشغيله آليًا عبر كابل هيدروليكى يمتد من المنصة التى تتسع لكل خدمات الإعاشة والإقامة ومركز تشغيل الآبار ومتابعتها وهى تتوسط تقريبا المسافة من البئر إلى الشاطئ.
وتبعد عن الشاطئ بحوالى 85 كيلومترًا ومثبتة فى قاع البحر بأعمدة وخوازيق لضمان الثبات ومؤمنة حسب أعلى المقاييس العلمية والفنية.
مشروع غير الممكن
كانت الرغبة فى سرعة الإنجاز قد تتصل بأسباب سياسية حسب رؤيتى المتواضعة ومع وجود مطامع لبعض الدول ورغبتها فى إثارة أزمات مع مصر ليس لشىء إلا لوقف عملية التنمية أو عرقلتها، ولأسباب اقتصادية لتقليص الإنفاق على شراء الغاز بعد أن وصلت كميات الاستيراد إلى 1.2 مليار قدم مكعب يوميًا من الغاز الطبيعي المسال بتكلفة حوالى250 مليون دولار شهريًا. حسب الارقام الوارده من الوزارة في عام 2017 وقبل ان يبدأ الحقل ضخ اول كمياته في نهاية نفس العام 2017 لتصل فاتورة الاستيراد سنويا الي 3 مليار دولار
.كلا السببين تحول إلى صناعة موقف يتسم بالصلابة لاصطياد عصفورين وبحجر واحد وهو الإصرار على اجتياز أكبر التحديات التى تثبت أن يقظة المصريين تتحقق فى أصعب الظروف وأحلك الأوقات.
كان السؤال الذى يتردد على ألسنة الخبراء والعلماء كيف يتم اختزال زمن التنفيذ المحدد بثمانى سنوات إلى عامين فقط؟ والمفاجأة 22 شهرًا فقط.
تم استدعاء أحدث التكنولوجيات فى العالم ومن المعلومات التى حصلت عليها "طاقة نيوز" قبلت شركة واحدة من ثلاث شركات متخصصة فى هذا المجال، أن تتولى القيام بمهمة تقديم تكنولوجيا ربما تزيد من التكاليف ولكن تختصر الزمن إلى ٢٥٪ من المدة الزمنية المطلوبة وهى ٢٢ شهرًا.
لينضم العصفور الثالث بنفس الحجر وهو إثبات موقف خرج بمشروع "ظهر" ليتخطى الأرقام القياسية المتعارف عليها عالميا عبر إضافة جديدة تسجل كاختراع فى علم الهندسة.
"ظهر" بضم الظاء وفى أرقام لم يكن التحدى مقتصرًا على داخل البحر ولكن فى البر أيضا.
حيث الأرض رخوة ومن الصعب أن تتحمل ملايين الأطنان من المعدات ولعدم وجود بديل فقد تم ردع التربة المتحركة من أرض تسهيلات المشروع بعدد ١٤ ألف خازوق وهى أعمدة خرسانية بأطوال ٦٠ مترًا وقطر ٨٠ سنتيمترًا ليبتلع المشروع ٨٥٠ ألف متر من الخرسانة.
عمليات التشغيل تحولت إلى حدث عالمى حيث أعلنت الطواري فى عدد ١٠٠ مطار دولى وعشرات الموانئ جميعها كان قد ازدحمت بالطيران والسفن لنقل مهمات ومستلزمات الحقل وملحقاته إلا أن الشركات المصرية قد أعلنت بدورها التحدى بزيادة قدراتها على التصنيع المحلى وفى اجتماع ضم بتروجت وإنبى وشركة الخدمات البحرية لتعلن بتروجت قيامها بتصنيع منصة تشغيل الحقل والتى تشبه مدينة عائمة ومثبت على ٤ قوائم فى أعماق تصل إلى ٨٥ مترًا تحت سطح البحر. لتبتلع ٥٠٠ طن من الحديد وتم إنهاء تصنيعها بواسطة بتروجت فى ١١ شهرًا فقط وهو رقم قياسى بالنسبة لمدينة عائمة تحمل فوقها آلاف الأطنان ولعمر افتراضى يتجاوز عمر الحقل أى بما يزيد على 50 سنة.
كما تم استخدام ١١ ألف طن من المواسير و٣٤ ألف طن من الهياكل الحديدية.
نعم لم يكن ظهر مجرد مشروع باعتباره لم يولد فى ظروف عادية وبالتالى شارك فى هذه المعركة ١٧٠ ونشًا عملاقًا منها حمولة ١٣٠٠ طن وهو من الأوناش المحدودة على مستوى العالم و١٥ ألف عامل.
لم تكن إنبى أقل فى الإصرار حيث قررت أن تتولى جميع عمليات التصميمات للمشروع بكل مراحله والتى تسير كلها فى نفس التوقيت.
ليأتى الدور على شركة الخدمات البحرية التى لم تكن تظن كل الشركات المثيلة فى العالم أنها سوف تقوم من عثرتها بعد ثورة يناير 2011، فأثبتت أنها الأقدر على إدارة كل النواحى البحرية فى المشروع بعدما كانت قد تمكنت من إعادة تأهيل معظم المعدات والمهمات الخاصة بها من بارجات وأوناش وغيرها، فتولت قيادة الشركات العالمية التى تعمل فى نفس المجال، لتقوم بتركيب كل الخطوط فى الأعماق وإجراء الاختبارات اللازمة ومدها من 21 بئرًا الذى يضمها الحقل إلى منطقة تجميع الغازات ثم إلى منطقة المعالجة بالشاطئ.
فريق العمل كان يعمل من خلال لجنة عليا ترأسها الوزير طارق الملا وتضم عشرات القيادات منهم رؤساء الشركات المشاركة.
ليصل عدد الجلسات المنعقدة إلى ٥٠ ورشة عمل واجتماعات دورية داخل مواقع العمل.
اختبارات على كل مرحلة من المراحل والتى تنفذ جميعها فى وقت واحد.
لم يكن الإنجاز هو الهدف الوحيد بل هناك أهداف كثيرة مترابطة ومتلاحمة مع بعضها البعض وهى ضمان أعلى معدلات الجودة والسرعة فى التنفيذ.
بورسعيد.. كامل العدد
كانت مدينة بورسعيد وقت تنفيد اعمال الحقل وعلي مدار عامين قد تحولت إلى خلية نحل، امتلأت فنادقها بكل مستوياتها، برجال المهمة الصعبة التى لانت صلابتها بعزيمة الرجال.. أوناش عملاقة ومعدات وآلاف السفن العملاقة تتولى نقل المهمات شركات مصرية دخلت اختبار التحدى فى مشروع القرن فى مجال تنمية أحد أكبر حقول الغاز العملاقة فى زمن من الصعب وصفه بالزمن القياسى ولكن باللامعقول.
٦٥ مليون ساعة عمل ما بين البر والبحر تبنى
الخروج من حاجز آليات ومعايير والعلوم الهندسية جعلت كل المراحل تتم فى زمن واحد
من تصميمات واستشارات وتصنيع وإنشاء وتجارب فى وقت واحد ليصبح ظُهْر الاسم المكون من ثلاثة حروف لم يكن يماثل مصر فى عدد أحرفها ولكن فى تاريخها وقدرة شعبها على العناد والتحدى ليعيد مجد شعب فى القدم بنى الأهرام، وفى الماضى القريب ووسط كل التحديات العالمية شيد السد العالى ثم عبر القناة وأخيرًا "ظهر" الذى لم ننظر إليه باعتباره حقلًا للغاز بل قصة تحدٍ.
أرقام قياسية
46 شهرًا فقط من توقيع الاتفاقية البحث والاستكشاف وحتى تدفق الإنتاج بدأ الإنتاج، بينما تتطلب الاكتشافات المماثلة من 6 إلى 8 سنوات على المستوى العالمى حتى تصل إلى مرحلة الإنتاج.
استثمارات ضخمة تعدت 12 مليار دولار (تم إنفاق حوالى 7 مليارات دولار حتى الآن).
وكانت البداية هى توقيع اتفاقية امتياز "بتروشروق" بين قطاع البترول وشركة إينى الإيطالية فى 30 يناير 2014.
ظهر و الآثار الاقتصادية
تخفيف جانب من أعباء تكلفة استيراد الغاز الطبيعى المسال عن كاهل الموازنة العامة للدولة.
توفير النقد الأجنبى وتأمين إمدادات الغاز لكل القطاعات الاقتصادية.
المساهمة فى تحويل مصر إلى مركزٍ إقليمى لتجارة وتداول الغاز والبترول.
لا شك أن ظهر عاملُ جذب استثمارى كبير فتلك حقيقة تعكسها مشاركة شركات بى بى البريطانية وروزنفت الروسية ومبادلة الإماراتية مع شركة إينى الإيطالية فى المشروع.
كان قد تم التعجيل ببدء الإنتاج لتبدأ باكورة إنتاج الحقل والتشغيل التجريبى فى منتصف ديسمبر 2017 وقبل نهاية عام 2017 بمعدل إنتاج مبدئى بلغ 350 مليون قدم مكعب غاز يوميًا، حيث بدأ الضخ الفعلى للغاز الطبيعى من الآبار البحرية للحقل إلى المحطة البرية الجديدة بمنطقة الجميل ببورسعيد لمعالجته وضخه فى الشبكة القومية للغازات، وذلك بعد نجاح اختبارات التشغيل الفنية لوحدات المعالجة وخطوط نقل الغاز من آبار الحقل إلى حقل ظهر.
إنجازٌ تابعه العالم كله وأولته القيادة السياسية اهتمامًا واسعًا، ومتابعة