أسامة داود يكتب: رحلة الغاز الطبيعي مع وزراء البترول (الحلقة الثالثة)

فى بداية الالفية وبعد عام تقريبا من وصول سامح فهمى لمقعد وزارة البترول تمكن من اتخاذ إجراءات سريعة تستهدف تأسيس بنية تحتية لتصريف فائض الغاز الطبيعى من خلال مشروعات بدأت بخط الغاز العربى الذى تقرر ربطه بالأردن فى البداية ثم بسوريا ولبنان. كان خط الغاز تم تدشينه فى عهد الدكتور حمدى البنبى عليه رحمة الله وبقطر 36 بوصة وكان  منذ البداية مخطط له أن يصل إلى الشيخ زويد شرق مدينة العريش، وقبل تولى المهندس سامح فهمى مهام وزارة البترول. وخط الغاز هو الرافد الوحيد الذى يمكن من خلاله تصريف كميات من الغاز المنتج تشجيعًا للشريك للاستمرار فى تنمية الحقول والبحث والاستكشاف، لكنه لم يكن يكفى، مع محدودية سعة الخط على تصدير حصة الشريك من الغاز الطبيعى والتى قد تفيض عن حاجة الاستهلاك المحلى. وفى عام 2000 بدأت وزارة البترول أولى خطواتها لإنشاء أول وحدة إسالة للغاز الطبيعى لتتطور إلى ثلاث وحدات كانت الأولى عبارة عن مجمع إسالة بدمياط، ويقع على بعد 60 كم غرب بورسعيد والتى تأسست عام 2000 وبدأت أعمال الإنشاءات فى سبتمبر 2001. كما بدأ العمل فى المجمع ديسمبر 2003 وخرجت أول شحنة من الغاز المسال للتصدير فى 20 يناير 2005. بينا لحقت بها الوحدتان الأخريان بمدينة إدكو بالبحيرة وتم تشغيلهما عام 2005. لتصبح تلك الوحدات وسيلة لتصدير الغاز الطبيعى مسالًا سواء حصة الشريك الاجنبى أو الفائض عن حاجة مصر، إلى أى دولة فى العالم خاصة أوربا. كانت تلك الوحدات من أكبر الإنجازات التى قام بها قطاع البترول فى ذلك الوقت.

تجارة الطاقة

واتضحت أهمية تلك المشروعات فى الوقت الحالى والتى ساهمت بشكل كبير فى تحفيز الشركات على إعلان ما تتوصل إليه من اكتشافات لحقول جديدة للغاز الطبيعى، وكان من ضمن تلك الاكتشافات فى المياه الدولية العميقة بالبحر المتوسط وكان منها موقع اكتشاف حقل ظهر. ولعبت البنية التحتية من وحدات الإسالة وتزايد الاكتشافات لدى صناع القرار فى مصر أن يكون للدولة دور دولى فى مجال تداول وتجارة الطاقة، خاصة وأن الموقع الاستراتيجى لتلك الوحدات على ساحل البحر المتوسط، يساهم بشكل فعال فى تحقيق الهدف. وبالتأكيد لم يكن هناك فرصة للقيام بهذا الدور دون امتلاك الدولة لبنية تحتية بجانب خط الغاز العربى. وتمتلك مصر فى وحدات الإسالة نسبة تتراوح ما بين 15% و24%. بجانب أن التعاقد مع الشركاء المنفذين لتلك الوحدات يلزمهم منح أفضلية فى تعريفة استغلال مصر للطاقة الفائضة فى تلك الوحدات بتسييل وبيع ما يفيض عن استهلاكها المحلى من الغاز.   معادلة 2.65 تعوق الشركاء مع تعاظم تكلفة البحث والإنتاج للغاز الطبيعى فى المياه العميقة تراجعت الشركات الأجنبية عن الاستثمار فى نشاط البحث عن الغاز، وبدأت الشركات تتقاعس عن تنفيذ عمليات التنمية وطالبت أن يتم تعديل الاتفاقيات وإخضاعها لمعادلة سعرية مختلفة عن معادلة الـ 2.65دولار. تلكأت شركة بريتش بتروليم "بى بى" عن استكمال أعمال البحث فى حقول شمال الإسكندرية وتعللت بارتفاع التكاليف التى سوف تصل إلى 10 مليارات دولار حسب تقديرهم، معللين ذلك بأنه لا يمكن أن تتناسب تكاليف البحث والاستكشاف والتنمية والإنتاج مع معادلة سعرية تتعامل على أساس أسعار متدنية لا تتجاوز 2.65 دولار لكل مليون وحدة حرارية... مما اضطر سامح فهمى معها إلى عرض الأمر للمناقشة على مجلس إدارة الهيئة ومناقشة كافة الخيارات والسيناريوهات المطروحة، ودراستها وتم التوصل إلى معادلة، وهى أن يتم شراء إنتاج الشركة من الغاز بسعر محدد وهو 3.95 دولار لكل مليون وحدة.. على أن تتحمل الشركة كافة نفقات البحث والتنمية المشار إليها، ودون استرداد الشركة أى نفقات.. وعلى ألا تحصل مصر على حصة مجانية كما كانت فى المعادلات السابقة، على اعتبار أن سعر شراء الغاز يمثل التكلفة بمشمولها من تكلفة بحث واستكشاف وتنمية وبنية تحتية وأعباء الاقتراض وفوائدها وخلافه.

تأييد وهجوم وانقسام

تحول الإعلان عن الاتفاقية الجديدة مع شركة بى بى إلى انقسام فى آراء خبراء البترول للاتفاقية بعضهم شن هجومًا يتسم بالشراسة على اعتبار أن وزارة البترول كان لابد أن تتمسك بالمعادلة القديمة التى سبق وأن توصل سامح فهمى لها وهى 2.65 دولار. بينما رأى الفريق الآخر أن الهجوم لا يتسم بالموضوعية والسبب أنه من غير المنطقى أن يتم المساواة بين قيمة غاز ينتج من حقول بالمياه الضحلة أو اليابسة وبين قيمة غاز ينتج من المياه العميقة.. بينما فى الحالة الأخيرة يبتلع تكاليف تتجاوز عشرات أضعاف ما تحتاجه تكاليف الحالة الأولى. تم تنفيذ الاتفاقية، لتتوقف بعدها وعلى أثر حالة احتجاجات من الأهالى ومنع إنشاء مصانع لمعالجة الغازات على شاطئ البحر أمام مدينة إدكو بعد حالة الرعب التى بثتها مشروعات البتروكيماويات خاصة أجريوم التى تحولت إلى "هسهس" بين المواطنين.. لكن اتفاقية حقول شمال الإسكندرية التابعة لشركة "بى بى" أصبحت اتفاقية قائمة تلتزم مصر بتنفيذها. أما الميزة الحقيقية فى تلك الاتفاقية هى أنها تتضمن التزام شركة بى بى بضخ 900 مليون قدم مكعب لمصر سنويُا لمدة 8 سنوات وهو ما يجبر الشريك الأجنبى على استمرار التنمية باعتبار أن خزانات الغاز تتناقص أسرع من خزانات الزيت الخام" البترول"، وأى نقص فى كميات الغاز المتفق عليها يتم تعويض مصر عنها.   توقف الاستكشاف وتناقص الإنتاج شهدت أحداث يناير ٢٠١١ تناقصًا حادًا فى إنتاج الغاز الطبيعى كنتيجة للفوضى العارمة التى شهدتها البلاد ومنها الهجوم على التسهيلات الأرضيّة لحقول شمال الإسكندرية علاوة على ارتفاع مديونية قطاع البترول للشركاء الأجانب  مع وضع مشكلة معادلة التسعير كإحدى أهم نقاط التوقف عن الاستثمار.. وكانت وزارة المالية بقيادة الدكتور بطرس غالى قد رفضت تغطية الدعم الموجه للطاقة خلال العقد الاول من القرن الحالى والذى بلغ وقتها ما يصل الى 60  مليار جنيه سنويا مما أعاق الوزارة فى سداد مستحقات الشركاء. وأدى تراجع تنمية الحقول والذى بلغ ذروته بعد قيام ثورة 2011، وتوقف العديد من الشركات عن إستكمال خططها فى تنمية حقول الغاز مما إنعكس سلبيًا على حجم الانتاج فيما بعد..   مناقصات الثورة تثمر عن ظُهر لكن رغم حالة التوتر التى كانت تمر بها الدولة بعد ثورة 2011 وحتى 2015 الا أن هناك عدد من الاتفاقيات تم طرحها وقت وزارة المهندس عبد الله غراب تركزت فى البحث والاستكشاف وبإستثمارات بلغت وقتها حسب ما ذكره لى المهندس هانى ضاحى رئيس الهيئة العامة للبترول 7.5 مليار دولار بدلا من 4 مليارات كان مخطط لها فى موازنة 2012.. وكان المهندس محمد شعيب رئيس القابضة للغازات الطبيعية وهانى ضاحى قد تمكنا من إقناع الشركات الأجنبية باستئناف عمليات البحث والاستكشاف. كما قاموا بطرح مناقصات جديدة كان من بينها مناطق اكتشاف حقل ظُهر الذى يحقق لمصر إنتاجًا يلامس حاليًا 3 مليارات قدم مكعب من الغاز يوميًا.